800 مليون دولار في مزرعة وزير: النظام السوري وطبقات النهب

صبحي حديدي

كان يُلقّب بـ«وزير الوعود» الدامية، لأنّ عدم الوفاء بها ظلّ مترافقاً بالتزام من جانبه بأن يقطع يده أو حتى رأسه، كما في هذا المثال: «لا يوجد رفع سعر الخبز وسيبقى السعر على ما هو عليه لسنة مقبلة على أقل تقدير، وأقطع يدي قبل أن أرفع الخبز»؛ أو هذا: «إنّ قطع رأسي أهون عليّ من خذلان مَنْ منحني ثقته، وخذلان المواطنين». لكنّ هذه البلاغة الساخنة لم تنقذ عمرو سالم من غضبة سيّده رأس النظام السوري بشار الأسد، فأصدر في أواخر آذار (مارس) الماضي مرسوماً بإقالته من وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك.

ولقد راجت شائعات، لم تكن أجهزة الاستخبارات والصفحات الموالية للنظام بعيدة عنها أغلب الظنّ، بأنّ سبب الإقالة يعود إلى الاشتباه في أنّ سالم كان يتجسس لصالح المخابرات المركزية الأمريكية، وأنّ الأسد كلّف اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي بالتحقيق، فداهمت مفرزة أمنية مزرعة الوزير المقال الشخصية، في الصبورة على تخوم دمشق. المعلومات المتداولة، في أعقاب المداهمة، لم تنقل اكتشاف أجهزة تنصّت أو تخابر، بل عثرت على التالي: نحو 800 مليون دولار أمريكي + 6 مليارات ليرة سورية + 2 كيلو غرام من الذهب عيار21… فقط، لا غير!

وكان أمراً تلقائياً أن تفضي هذه التقارير إلى فضح مزيد من التفاصيل، حين كان الوزير يحظى بثقة سيّده، ويغدق الوعود على السوريين بصدد الخبز أو الوقود أو البصل؛ فذكرت شائعة أولى أنه هرّب مبلغ مليونَيْ دولار إلى الإمارات في منتصف أيار (مايو) 2022، تمّ إيداعها في مصرف إماراتي؛ وقالت شائعة ثانية إنّ تعليمات عُمّمت على منافذ سوريا الحدودية تقضي بمنع أفراد عائلته من المغادرة. كلّ هذا وإعلام النظام، أسوة بإعلام «محور الممانعة» هنا وهناك، في حال من الإغفال التامّ عن هذه وسواها من تفاصيل؛ الأمر الذي ينطوي ضمناً على استغفال مزدوج مترادف: لعقول أبناء سوريا وجمهور «الممانعة» أينما كان، ولكن أيضاً لعقول «الممانعين» أنفسهم ممّن تقتصر أشكال تعاطيهم مع الحكاية على الهمس.

أمّا عموم المواطنين، في سوريا تحديداً، فإنّ واقعة الوزير السابق، إنْ صحت، ليست طارئة ولا غريبة على سجلات الفساد والإفساد وتقاليده التي رسخها آل الأسد منذ الأشهر الأولى التي أعقبت انقلاب «الحركة التصحيحية» خريف 1970؛ كما أنها لا تنفصل البتة عن سواها من وقائع شبّت عليها أجيال، وبعضها شاب أيضاً، في الهرم الأعلى للنظام حيث الأشقاء والأعمام والأخوال وأبناء العمومة والخؤولة والزوجات، أمثال رفعت الأسد وماهر الأسد ومحمد مخلوف ورامي مخلوف وأسماء الأسد. ثمة، كذلك، وعي شعبي سوري تدرّب طويلاً، أو علّمته تجارب النظام ذاته، أنّ حكايات كهذه يمكن أن تكون حقيقية فعلية، جزئياً أو كلياً؛ ولكنها يمكن، أيضاً، أن تكون ألعاب أجهزة أمنية بقصد الإلهاء وصرف الأنظار وتجميل صورة النظام، أو لإخراس صوت فاضح أو فضّاح، أو إغلاق «صندوق أسود» يمكن أن يُفتح على أهوال الفضائح تارة أخرى.

وأياً كان موقع الوزير المقال في النمطَين، أو في منزلة بينهما، وبصرف النظر عن مقادير الحقيقة أو التلفيق الاستخباراتي (لجهة السيولات النقدية المذهلة، أو العمالة والتخابر الخارجي)؛ فإنّ الواقعة تحيل إلى أسئلة قديمة مقيمة بصدد شريحة في بنية النظام تشمل أمثال وزير التجارة الداخلية المقال. هؤلاء يقبعون في دوائر أدنى من سلّم السلطة، أي في مرتبة تلي أفراد آل الأسد، والكبار من قادة أجهزة النظام الأمنية والعسكرية والميليشياتية، والفئة العليا من صيارفة العائلة ومديري عمليات النهب والإثراء. هنا مقام ذلك «المسؤول» البيروقراطي، الذي يتولى وزارة أو يترأس مؤسسة كبرى، على غرار الوزير المقال عمرو سالم، وقبله حفنة وزراء سابقين أمثال وزير المالية محمد الحسين، أو وزير الصناعة غسان ‏طيّارة، أو وزير المواصلات بشير المنجد، أو وزير الاقتصاد غسان الرفاعي.

والمواقع العليا التي شغلها هؤلاء لم تُبقهم مجرّد موظفين يؤدون مهامّ بيروقراطية، بل أتاحت لهم (امتثالاً وسكوتاً، أو طواعية وانخراطاً) المشاركة في إدارة شبكات الفساد ونهب ثروات البلاد. وفي الآن ذاته لم تكن تمنحهم ضمانة للبقاء في كنف السلطة إذا شاءت الظروف الطارئة، أو اقتضت تطوّرات داخلية أو خارجية، دخولَ بعض مكوّنات النظام الأساسية في صراع بقاء مع رأس الهرم، أو بين بعضها البعض. الإحالة القسرية إلى التقاعد، أو الإقالة، أو الوضع على الرفّ، أو سواها من خيارات الإزاحة بعيداً عن المشهد، اعتُمدت على الدوام؛ منذ أن دشّن الأسد الأب هذه «الفلسفة» في إدارة شخوص النظام، ومراكز القوى داخل معماره العسكري والأمني والحزبي.
هي طبقات في تسيير النهب والفساد والإفساد، أو تيسيره، أو الانخراط فيه؛ ولهؤلاء وظائف بالغة الحيوية، من حيث الضرورة البيروقراطية على الأقلّ، حتى إذا لم يكونوا من طينة حكمت الشهابي، ناجي جميل، علي دوبا، علي حيدر، رفعت الأسد، محمد الخولي… أيام الأسد الأب؛ أو آصف شوكت، غازي كنعان، محمد منصورة، جميل حسن، رستم غزالي… أيام الأسد الابن. الملفات هنا لا تُعدّ ولا تُحصى، بينها سكوت وزراء المالية عن انقلاب شركتَيْ ‏الهاتف الخليوي «سيرياتيل» و«سبيستيل» لصاحبهما رامي مخلوف، من ‏شركتَي ‏BOT‏ (أي بناء ـ تشغيل ـ انتقال ملكية) إلى شركتين مساهمتين تطرحان الأسهم للبيع ‏على الجمهور، قبل أو دونما إحداث سوق أسهم؛ أو تنازل الدولة عن حقّها في امتلاك الشركتَين، بعد انتهاء مدّة العقد.

وليس خافياً على أبناء سوريا أنّ طبقات النهب والفساد والإفساد التي يديرها أو ينخرط فيها أو يسيّرها أمثال الوزير المقال هي، في وجوه أخرى من اشتغالها، مستويات تقاسم للنفوذ والصلاحيات والحصانات، من كلّ حسب «المسؤولية» المناطة به، ولكلّ حسب جهده من تحصيل الغنائم. وإلا، بافتراض صحّة ما عُثر عليه في مزرعة الصبورة، كيف أمكن لذلك الوزير، أو سواه ممّن لم يُكشف النقاب عن فضائحهم، أن يكدّس تلك السيولات داخل نظام استخباراتي أمني ضيّق وأقرب في صراعاته إلى غابة وحوش مفترسة؟ سؤال نافل، قد يجيب مواطن سوري يقضي سحابة نهاره وليله في انتظار ربطة خبز أو حفنة من البصل؛ مثله مثل سؤال ثانٍ نافل بدوره، حول كيفية نجاح الوزير في جمع هذه الملايين والمليارات… ورقياً، على الأقلّ!

طراز ثالث من الأسئلة النافلة لدى المواطن السوري إياه، يمكن أن يتخذ صفة التشكيك في المنطق الكسيح الذي تتصف به بعض إشاعات أجهزة النظام، الاستخباراتية والإعلامية على حدّ سواء؛ إذْ، بافتراض صحة حكاية الوزير المقال في كثير أو قليل، أهو على درجة عالية من الذكاء والشطارة كي يجمع الملايين والمليارات، ولكنه على درجة دنيا من الغباء والغفلة كي يكدسها في مزرعته؟ وبافتراض أن العقوبات المفروضة على النظام تقيّد طرائق تحويل الأموال، هل عجز شركاؤه في طبقات السلطة/ النهب الأعلى عن توفير وسائل كافية تكفل له تهريبها؟

ما لا يحتاج المواطن السوري إلى التساؤل حوله، في مقابل ذلك كلّه، هو ذلك المعطى الملموس: أنّ عمرو سالم كان مقرّباً من رأس النظام وآل بيته، وهو وزير دائم منذ 16 سنة؛ وكفى بهذا التفصيل دليلاً على الخيط الرفيع، بين الحقيقة والإشاعة.

المصدر: القدس العربي

قد يعجبك ايضا