أزمة السيادة في سوريا بعد عام 2011.. أسبابها ونتائجها

مرهف الشهاب

السيادة هي المفهوم الذي يشير إلى السلطة العليا داخل الدولة والكيان السياسي وتمتلك الدولة الحق الحصري في الحكم والتحكم بحدود الدولة والسياسيات الداخلية ،الخارجية دون تدخل خارجي. وشهدت سورية أزمة كبيرة أثرت بشكل عميق على مفهوم السيادة فيها نتيجة للصراع الداخلي بداية والتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية لاحقاً.

تستعرض الورقة شكل الصراع المسلح الداخلي و تأثيره على السيادة بشكل مباشر ، كما تبحث في أدوار كل من إيران وروسيا و تركيا والتحالف الدولي لمحاربة داعش في التأثير على السيادة الوطنية وانعكاساتها على الجماعات المسلحة المعارضة وموقف تلك الجماعات من السلطة المركزية في دمشق وعلاقتها بالداعمين الإقليميين و الدوليين، وتسعى الورقة الى تفسير التدخلات من وجهة نظر القانون الدولي ، وتحاول استشراف مخرج لأزمة السيادة الوطنية.

تغيرت الديناميات السياسية والاجتماعية في سوريا بشكل جذري منذ اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، ما أثر بشكل كبير على مفهوم السيادة الوطنية. وتأثرت السيادة السورية بالعديد من العوامل الداخلية والخارجية، بما في ذلك النزاع المسلح، التدخلات الأجنبية، والجماعات المسلحة المحلية. يهدف هذا البحث إلى تحليل هذه التغيرات وتأثيرها على مفهوم السيادة في سوريا.

خلفية تاريخية:

ولد الكيان السوري سياسيا عقب انهيار الدولة العثمانية ، حيث دخلت القوات العربية بقيادة الأمير فيصل الحسين سوريا عام 1918 بدعم بريطاني، وأنهت الحكم العثماني الذي دام 400 عام. عُقد على أثرها مؤتمر سوري عام 1920 وأعلن استقلال سوريا، لكن فرنسا احتلت سوريا وألغت “المملكة العربية السورية”. و ضمت فرنسا لواء إسكندرونة إلى سوريا ومنحته حكما ذاتيا. وبين عامي 1922 و1924 اتحدت دويلات جبل العلويين ودمشق وحلب، ثم بعدها بعام اتحدت حلب ودمشق، وبقيت دولة جبل العلويين شبه مستقلة، وأعلن اتحاد “الدولة السورية”.

عام 1925، اندلعت الثورة السورية الكبرى اعتراضا على السياسات الفرنسية، وجرت انتخابات الجمعية الدستورية وشكلت الجمعية دستور البلاد عام 1930 وانتخب محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية عام 1932. وفي تشييع الزعيم الوطني إبراهيم هنانو قادت الكتلة الوطنية الاضراب الستيني المشهور وطالبت باستقالة الرئيس محمد علي العابد ورئيس حكومته الشيخ تاج الدين الحسيني.

وتوصل الوفد السوري المفاوض في باريس الى توقيع المعاهدة السورية الفرنسية عام 1936، وأصبح هاشم الأتاسي رئيسيا للبلاد. وخرجت احتجاجات عام 1939 مطالبة باستقالته وتعليق العمل بالدستور، ثم احتجاجات عام 1941 بسبب الأزمة الاقتصادية التي شلّت البلاد خلال الحرب العالمية الثانية وكانت خلال حكم بهيج الخطيب.

سيطر الحلفاء على سورية بعد معركة دمشق 1941، ثم أعلنوا استقلالها ونظموا انتخابات قادت إلى اختيار شكري القوتلي رئيسا. وبعد انتهاء الحرب اندلعت الانتفاضة المطالبة بالاستقلال التي حررت البلاد عام 1946. ثم استقلت البلاد عام 1946، لكنها عانت من اضطرابات سياسية مستمرة فيها مع انقلابات وثورات متلاحقة.

استولى الجيش على السلطة عام 1949، ثم اتحدت سوريا مع مصر بين عامي 1958 و1961 تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة. لكنها سرعان ما انهارت بعد انقلاب عسكري تبناه حزب البعث العربي الاشتراكي، وسيطر على البلاد في انقلاب ثان تبناه في آذار 1963، استولت فرق بعثية في الجيش على السلطة في سوريا وألغت الدستور وحلت السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ونفت غالب الطبقة السياسية وأعلنت حال الطوارئ، تلتها عدة انقلابات بسبب الصراعات الداخلية بين البعثيين. وأحكم الضباط العسكريون العلويون البعثيون سيطرتهم على البلاد، بينهم صلاح جديد ومحمد عمران وحافظ الأسد وزير الدفاع السوري، وانقلب الأخير على رفاقه البعثيين عام 1970 واعتقل رئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي ورئيس حكومته الدكتور يوسف زعين وكل أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث.

وأقر الأسد دستوراً جديداً كرس فيه نظام الحزب الواحد، إذ نصّ على أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو “قائد الدولة”، وأن له “القيادة السياسية والفكرية والتنظيمية للمجتمع”. حكم الأسد سوريا لمدة 30 عاماً بالقوة و لعبت سوريا في عهده أدوارا اقليمية خارجية كالتدخل العسكري في لبنان و قرب بعض الفصائل الفلسطينية على حساب بعضها الاخر، كما اتخذ موقفا مغايرا للإجماع العربي ضد إيران وأبقى على علاقة جيدة معها ضد العراق في ظل حكم البعث العراقي الشقيق لحزبه في عهد صدام حسين، وبهذا المعنى فقد كانت الدولة قادرة على ضبط حدودها الداخلية فيما كانت تلعب أدوارا إقليمية.

في عام 2000، ورث بشار الأسد حكم سوريا عن أبيه، ساعده في ذلك تحكم الأسد الاب المطلق في المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية حيث سهل رجال الاب انتقال السلطة للابن من خلال تعديل عمر رئيس الجمهورية في النص الدستوري الى 34 عاما، يسمح من خلالها للابن بالترشح. جرت على إثرها انتخابات رئاسية ربحها الأسد دون منافس بنسبة 98 بالمئة من أصوات السوريين. لم تختلف سياسة سوريا الإقليمية بعهد الابن ، فقد سعى الى ممارسة دور في العراق بعد الغزو الأمريكي له، و اتهم بالضلوع بقتل رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري وهو ما دفع ثمنه الخروج من لبنان بقرار مجلس الامن الدولي عام 2005، وفي ظل تلك المتغيرات اتجه نظام الأسد الى مزيد من القسوة والعنف ضد الاكراد خلال انتفاضة عام 2004 والتي كانت دوافعها هي اختبار القوة لضبط المنطقة الشمالية الشرقية التي يشكل الاكراد السوريين أكثرية فيها، ومنع أي تحرك كردي ضد السلطة المركزية في دمشق، اثر شعور اكراد سوريا بالنصر والقوة بسبب سقوط نظام الرئيس صدام حسين و الذي انعكس بحصول إقليم كردستان العراق على الحكم الاتحادي بعد دستور عام 2005.

التغيرات الطارئة على السيادة في سوريا منذ عام 2011:

امتدت موجة ثورات الربيع العربي بعد تونس ومصر وليبيا واليمن الى سوريا، واجهت السلطة الأمنية السورية المظاهرات بالقمع والاعتقال، وفشلت محاولات جامعة الدول العربية لإيجاد صيغة حل تضمن حل الأزمة في سوريا وفق مقترح مبادرة الجامعة، أدى إصرار السوريين على المطالبة بحقوقهم ، وتعنت السلطات السورية ورفضها تقديم أي تنازلات سياسية واعتبرتها انه تقوض سيادتها، وحاكمت اغلب المعتقلين على خلفية التظاهرات بتهم النيل من هيبة الدولة او اثارة النعرات الطائفية او تشكيل كيان يمس بوحدة الأراضي السورية. ويمكننا تقسيم المجالات التي اثرت بمسألة السيادة الوطنية الى داخلي وخارجي:

أولا- المجال الداخلي:

1- النزاع المسلح يقوض سيادة الدولة المركزية:
دفع قمع الاحتجاجات والعنف العاري الذي استخدمته السلطات السورية ضد المتظاهرين وإخراج الجيش من ثكناته للسيطرة على رقعة الاحتجاجات المتزايدة الى ضعف تماسك الجيش السوري الذي يتكون 75 بالمئة من عناصره من مجندي الخدمة الإلزامية، كما بدأ عناصر من الشرطة بالانشقاق خوفا على حيواتهم ورفضا لمواجهة اهاليهم بالرصاص، لحقهم بالانشقاق ضباط الجيش من غير العلويين وكذلك فعل مجندي الخدمة واعتكف اغلب أبناء الأرياف السورية عن الالتحاق بخدمة العَلَمْ. وأدى استمرار النظام بحملاته الأمنية والعسكرية ضد البلدات والمدن الى تشكيل فصائل محلية بقيادة ضباط عسكريين واخرين مدنيين وجدوا صعوبة في استمرار سلمية الثورة. أدى النزاع المسلح بين الحكومة السورية والفصائل المعارضة إلى تقويض سيطرة الدولة المركزية على العديد من المناطق التي سيطرت عليها فصائل المعارضة بمختلف ايديولوجياتها واشكالها، ما أثر على السيادة التقليدية للدولة.

2- اقتصاد الدولة المركزية ليس بيدها:
أنشأت الفصائل والجماعات المسلحة دويلات داخل الدولة سيطرت على الموارد الطبيعة والثروات وتحكمت بإدارتها واستغلالها ومنعتها عن الدولة المركزية. كما أدى الدمار الهائل للبنية التحتية للمؤسسات الحكومية والمدنية لتراجع دور الدولة المركزية. استعادت الحكومة المركزية بعض المناطق التي تحتوي على الفوسفات والغاز ولكن ظلت الثروة النفطية الرئيسية بيد مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والذي يتحكم بالناتج الرئيسي للقمح والذي يزرع في محافظة الحسكة السورية، اضافة لمحصول القطن الذي يزرع على الضفة اليسرى لنهر الفرات وتعتبر تلك المحاصيل محاصيل استراتيجية تاريخيا بالنسبة للدولة المركزية. كما تعتبر العقوبات الدولية واحدة من اهم الأضرار التي تجعل سيادة الدولة منقوصة.

3- دولة بلا قانون:
تسببت الحرب الطويلة أيضا الى انقسام النظام القضائي وتطبيق القوانين بين المناطق المختلفة أدى إلى تآكل السيادة القانونية الموحدة للدولة. حيث تعمل المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة المركزية بتشريعات مختلفة ملائمة للإيديولوجيات المختلفة. الامر الذي يعيق عمل القضاء ومؤسساته، كما ضغطت السلطات الأمنية على القضاة المستقلين مما اجبر العديد منهم على الانشقاق علنية او مغادرة العمل دون الرجوع لوزير العدل المختص.

ثانياً- المجال الخارجي:
دخلت العديد من القوى الأجنبية على خط النزاع، بما في ذلك روسيا، الولايات المتحدة الامريكية، تركيا، وإيران، كل منها سعى لتحقيق مصالحه الاستراتيجية. تواجد هذه القوى على الأرض السورية وعملها العسكري والسياسي أدى إلى تعقيد مفهوم السيادة السورية. كما أن هذه التدخلات ساهمت في تعزيز الانقسامات الداخلية وإطالة أمد النزاع، مما أثر على قدرة الحكومة السورية على فرض سيطرتها الكاملة على أراضيها.

1-الدور التركي:
سعت انقرة بداية الثورة السورية الى لعب دور الوسيط بين المعارضة السياسية والأسد الا ان الأخير رفض كل المقترحات المقدمة من قبل وزير الخارجية التركي احمد داوود اوغلو حينها، حيث تلخص المقترح باشراك المعارضة السورية في الخارج بنصف مقاعد حكومته.

رفض الأسد دفع تركيا لاتخاذ موقف بدعم المعارضة السورية خشية ملء الفراغ من قبل دول أخرى ، حيث استضافت مؤتمرات المعارضة منذ صيف عام 2011 . كما استضافت المجلس الوطني المعارض و الائتلاف الوطني وحكومة المعارضة، وكانت تركيا جزء من أصدقاء الشعب السوري وقامت بدعم المعارضة عسكريا الى جانب غالبية الدول الأصدقاء.

تدخلت عسكريا في شمال سوريا ضد تنظيم الدولة الإسلامية عام 2016 وشنت عمليتين أخريين ضد وحدات حماية الشعب الكردية وهي الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني. وانشأت قواعد عسكرية في شمال وشمال غرب سوريا ، وابرمت اتفاقيات خفض التصعيد مع روسيا وإيران عام 2018 و عام 2020.

2- الدور الإيراني:
وقفت إيران منذ الأيام الأولى الى جانب نظام الأسد وارسلت ميليشيات شيعية أفغانية وباكستانية وعراقية لدعم النظام في العمليات العسكرية ضد خصومه، وأوكلت حزب الله اللبناني لقيادة المعركة على الأرض ودعمته بمستشارين عسكريين في مختلف صنوف الأسلحة. شكلت اضافة لروسيا وتركيا مسارا موازيا للمسار الاممي الذي يقوم به الأمين العام للأمم المتحدة، كانت جزءا من اتفاقيات خفض التصعيد. من وجهة نظر الحكومة السورية، يعتبر التدخل الإيراني قانونيًا لأنه جاء بناءً على طلب الحكومة الشرعية في دمشق. ومع ذلك، يعتبر البعض أن هذا التدخل يعزز من تبعية سوريا لإيران ويقوض من سيادتها.

3- الدور الروسي:
تدخلت روسيا نهاية عام 2015 بعد تعرض قوات النظام والميليشيات الإيرانية الي هزيمة كبيرة في محافظة ادلب، بطلب إيران والأسد ، وقد أحدث تدخل روسيا في المعركة فارقا كبيرا في الميدان نتج عنه خسائر كبيرة للمعارضة أدى الى انحسار وتراجع سيطرتها بعد ان كانت تسيطر على 60 بالمئة من مساحة البلاد.

يعتبر التدخل الروسي شرعيًا من منظور الحكومة السورية لأنه جاء بناءً على طلبها. ووفقًا للقانون الدولي، فإن طلب المساعدة العسكرية من دولة ذات سيادة لحكومة شرعية يُعد قانونيًا. لكن، هناك انتقادات بأن التدخل الروسي أدى إلى تعميق الأزمة وتعزيز النفوذ الروسي في سورية.

4- الدور الأمريكي:
دعمت واشنطن المعارضة السياسية والعسكرية دون ان تسمح لها بإسقاط النظام السوري، وتحكمت بإمدادات السلاح ونوعها ومنعت حصول فصائل المعارضة السورية على السلاح المضاد للطائرات رغم عمليات القصف العشوائية وغير المركزة للطائرات الحربية للنظام وقتل عشرات الالاف من السوريين بالبراميل المتفجرة. وفي سياق آخر ، شكلت أمريكا التحالف الدولي لمحاربة داعش خارج نطاق الشرعية الدولية أو الحصول على قرار من مجلس الأمن الدولي عام 2014، ودعمت مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية لقتال التنظيم وهو سببا بشرخ كبير بالعلاقة التاريخية بين واشنطن وانقرة على اعتبار ان كلا الدولتين عضوتين في حلف شمال الأطلسي ” الناتو” وتركيا تمتلك ثاني أكبر جيش في “الناتو” وتمتلك أمريكا واحدة من أكبر قواعدها في المنطقة اضافة الى قواعد مشتركة صغيرة تحت مظلة “الناتو” . وابقت أمريكا منطقة شرق نهر الفرات تحت وصايتها فيما أوقفت دعم فصائل المعارضة السورية الأخرى. ويسيطر المقاتلون الاكراد المدعومين من التحالف الدولي على مساحات كبيرة تمتد على مساحة أربع محافظات سورية، هي حلب والرقة والحسكة ودير الزور. كما أنشأت أمريكا قاعدة التنف العسكرية والتي تقطع الطريق الواصل بين بغداد ودمشق وهو ما حرم الحكومة المركزية السيطرة على طرق المواصلات الدولية لفترة طويلة من الزمن. الامر الذي أعاق نقل النفط من العراق لسوريا لفترات طويلة ودفع إيران لإرسال البواخر لسد العجز وتشغيل المحطات الحرارية التي تولد الكهرباء وتعمل على الفيول.

الخاتمة

أدى النزاع السوري منذ عام 2011 إلى تغيير جذري في مفهوم السيادة في سوريا. تآكلت السيادة المركزية بسبب النزاع الداخلي، والتدخلات الأجنبية، وظهور الجماعات المسلحة المحلية. تحتاج سوريا إلى جهود كبيرة لاستعادة سيادتها الوطنية من خلال تسوية سياسية شاملة، وإعادة بناء البنية التحتية، وإعادة توحيد البلاد تحت سلطة مركزية واحدة ويمكن القول إن مفهوم السيادة في سوريا بعد عام 2011 تحول إلى مفهوم نسبي ومتغير. لم تعد السيادة حكراً على الحكومة المركزية، بل أصبحت مقسمة بين عدة قوى داخلية وخارجية. هذا الوضع يجعل من الصعب التوصل إلى حل سياسي للصراع وتحقيق الاستقرار في البلاد.

قد يعجبك ايضا