التراجع العالمي للتديُّن

ترجمة: علاء الدين أبو زينة رونالد إف. إنغلهارت* –ترجمة: علاء الدين أبو زينة (أكتوبر)

جسر: ترجمة:

في الأعوام الأولى من القرن الحادي والعشرين، بدا الدين آخذاً في الصعود. ترك انهيار الشيوعية والاتحاد السوفياتي فراغًا أيديولوجيًا قامت بملئه المسيحية الأرثوذكسية في روسيا ودول ما بعد الاتحاد السوفياتي الأخرى. واقترح انتخاب الرئيس جورج دبليو بوش في الولايات المتحدة، وهو مسيحي إنجيلي لم يجعل من تقواه سراً، أن المسيحية الإنجيلية تنهض كقوة سياسية في البلد. ووجهت هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) الانتباه الدولي إلى قوة الإسلام السياسي في العالم الإسلامي.
قبل نحو دزينة من الأعوام، قمنا زميلتي بيبا نوريس Pippa Norris وأنا بتحليل البيانات المتعلقة بالاتجاهات الدينية في 49 دولة، بما في ذلك عدد قليل من الأقاليم الفرعية مثل أيرلندا الشمالية، التي كانت أدلة المسح متاحة منها من العام 1981 إلى العام 2007 (تضم هذه البلدان 60 في المائة من سكان العالم). ولم نجد إعادة انبعاث عالمية للدين، على الرغم من الادعاءات التي تفيد بهذا المعنى -أصبحت معظم البلدان ذات الدخل المرتفع أقل تديناً- لكننا وجدنا أن الناس في 33 من أصل 49 دولة درسناها، أصبحوا أكثر تديناً خلال تلك الأعوام. كان هذا صحيحًا في معظم البلدان الشيوعية السابقة، وفي معظم البلدان النامية، وحتى في عدد من البلدان ذات الدخل المرتفع. وأوضحت النتائج التي توصلنا إليها أن التحول إلى التصنيع وانتشار المعرفة العلمية لم يتسببا في اختفاء الدين، كما افترض بعض العلماء ذات مرة.
ولكن، منذ العام 2007، تغيرت الأمور بسرعة مذهلة. من العام 2007 إلى العام 2019 تقريبًا، أصبحت الغالبية العظمى من البلدان التي درسناها -43 من أصل 49- أقل تديناً. ولم يقتصر التراجع في الإيمان على البلدان ذات الدخل المرتفع وإنما ظهر في معظم أنحاء العالم.
ثمة أعداد متزايدة من الناس الذين لم يعودوا يعتبرون الدين مصدرًا ضروريًا للدعم والمعنى في حياتهم. وحتى الولايات المتحدة -التي لطالما استُشهد بها كدليل على أن المجتمع المتقدم اقتصاديًا يمكن أن يكون شديد التدين- انضمت الآن إلى الدول الغنية الأخرى في الابتعاد عن الدين. وهناك العديد من القوى التي تدفع في هذا الاتجاه، لكن الأقوى من بينها هي تراجع السيطرة على مجموعة من المعتقدات المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بضرورة الحفاظ على معدلات عالية من المواليد. وقد أصبحت المجتمعات الحديثة أقل تديناً، جزئياً لأنها لم تعد في حاجة إلى التمسك بأنواع الأعراف الجندرية والجنسية التي غرستها ديانات العالم الرئيسية في الناس لقرون.
على الرغم من أن بعض المحافظين الدينيين يحذرون من أن التراجع عن العقيدة سيؤدي إلى انهيار التماسك الاجتماعي والأخلاق العامة، إلا أن الأدلة لا تدعم هذا الادعاء. وبقدر ما يبدو ذلك غير متوقع، فإن البلدان الأقل تديناً تميل في الواقع إلى أن تكون أقل فسادًا ولديها معدلات قتل أقل من الدول الأكثر تدينًا. وغني عن القول إن الدين بحد ذاته لا يشجع على الفساد والجريمة. وتعكس هذه الظاهرة حقيقة أنه مع تطور المجتمعات، يصبح أمر حفظ البقاء أكثر أمناً: المجاعات التي كانت متفشية ذات مرة، تصبح غير شائعة؛ ويزيد متوسط العمر المتوقع؛ ويتراجع القتل وغيره من أشكال العنف. ومع ارتفاع هذا المستوى من الأمن، يميل الناس إلى أن يصبحوا أقل تديناً.
صعود الإيمان وسقوطه
قارنَت دراستنا السابقة التي نُشرت في العام 2011 مستويات الإيمان الديني التي تم قياسها في وقت مبكر من العام 1981 مع نتائج الاستطلاعات الأخيرة المتاحة في ذلك الوقت، من حوالي العام 2007، على امتداد فترة ربع قرن تقريبًا. وفي كل استطلاع، طُلب من المستجيبين الإشارة إلى مدى أهمية الله في حياتهم عن طريق اختيار قيمة على مقياس يتراوح من واحد؛ “غير مهم على الإطلاق”، إلى عشرة؛ “مهم جدًا”.
وأدى فحص كيفية تغير مستوى التدين في بلد ما بمرور الوقت إلى بعض النتائج المذهلة. أظهرت غالبية الدول التي شملها الاستطلاع ارتفاعات في الإيمان بأهمية الله. وكانت أكبر الزيادات في البلدان الشيوعية السابقة. وعلى سبيل المثال، من العام 1981 إلى العام 2007، ارتفع متوسط درجة الجمهور البلغاري من 3.6 إلى 5.7. وفي روسيا، ارتفع من 4.0 إلى 6.0. وكان هذا النمو في التدين، في جزء منه، ردًا على التدهور الحاد في الأمن الاقتصادي والجسدي والنفسي الذي حدث بعد تفكك الاتحاد السوفياتي؛ كان الدين يملأ الفراغ الأيديولوجي الذي خلفه انهيار الشيوعية. كما ازداد منسوب الإيمان الديني أيضًا في العديد من البلدان النامية خارج مدار الاتحاد السوفياتي السابق، بما في ذلك البرازيل والصين والمكسيك وجنوب إفريقيا. ومن ناحية أخرى، انخفض الدين في معظم البلدان ذات الدخل المرتفع.
ومنذ العام 2007، تكوّن اتجاه حاد بشكل ملحوظ للابتعاد عن الدين. في كل دولة ذات دخل مرتفع تقريبًا، استمر الدين في التدهور. وفي الوقت نفسه، أصبحت العديد من البلدان الفقيرة، إلى جانب معظم الدول الشيوعية السابقة، أقل تديناً. من العام 2007 إلى العام 2019، أصبحت خمس دول فقط أكثر تديناً، بينما تحركت الغالبية العظمى من الدول التي شملتها الدراسة في الاتجاه المعاكس.
كانت الهند هي الاستثناء الأكثر أهمية للنمط العام من انحسار التدين. وتتزامن فترة الدراسة تقريبًا مع عودة حزب “بهاراتيا جاناتا” القومي الهندوسي إلى السلطة، وهو الذي تسعى علامته التجارية السياسية إلى دمج الهوية الوطنية بالهوية الدينية. وقد روجت حكومة حزب “بهاراتيا جاناتا” لسياسات تميز ضد أتباع الديانات الأخرى، ولا سيما الأقلية المسلمة الكبيرة في الهند، ما يؤدي إلى استقطاب المجتمعات وإثارة المشاعر الدينية.
حدث التحول الأكثر دراماتيكية بعيدًا عن الدين بين الجمهور الأميركي. من العام 1981 إلى العام 2007، صُنفت الولايات المتحدة كواحدة من أكثر دول العالم تديناً، مع تغيرات طفيفة فقط في مستويات التدين. ومنذ ذلك الحين، أظهرت الولايات المتحدة أكبر ابتعاد عن الدين في أي بلد لدينا بيانات عنه. قرب نهاية الفترة الأولى التي شملتها الدراسة، كان متوسط تصنيف الأميريكيين لأهمية الله في حياتهم 8.2 على مقياس من عشر نقاط. وفي أحدث مسح لأميركا، هبط الرقم منذ العام 2017 إلى 4.6، وهو انخفاض حاد ومذهل. فلطالما كانت الولايات المتحدة على مدى أعوام هي القضية الرئيسية التي تثبت أن التحديث الاقتصادي لا يحتاج إلى العلمنة. ووفقًا لهذا المقياس، تصنف الولايات المتحدة الآن على أنها الدولة الحادية عشرة الأقل تديناً التي لدينا بيانات عنها.
تنبأ المفكرون المؤثرون، من كارل ماركس Karl Marx إلى ماكس فيبر Max Weber إلى إميل دوركايم Émile Durkheim بأن انتشار المعرفة العلمية سوف يبدد الدين في جميع أنحاء العالم، لكن هذا لم يحدث. بالنسبة لمعظم الناس، كان الإيمان الديني شأناً عاطفيًا أكثر من كونه معرفيًا. وبالنسبة لمعظم تاريخ البشرية، كان البقاء المطلق شأناً غير مؤكد. وقدم الدين ضماناً بأن العالم هو في أيدي قوة (أو قوى) أعلى، معصومة من الخطأ، التي تعِد بأنه إذا اتبع المرء القواعد، فإن الأمور ستسير في النهاية إلى الأفضل. وفي عالم يعيش فيه الناس غالبًا بالقرب من المجاعة، ساعدهم الدين على التغلب على حالة عدم اليقين والتوتر الشديدين. ولكن، مع حدوث التطور الاقتصادي والتكنولوجي، أصبح الناس قادرين بشكل متزايد على الهروب من الجوع، والتعامل مع المرض، وقمع العنف. وبذلك أصبحوا أقل اعتمادًا على الدين-وأقل استعدادًا لقبول قيوده، بما في ذلك إبقاء النساء في المطبخ والمثليين مستترين -بينما تضاءل انعدام الأمن الوجودي وارتفع متوسط العمر المتوقع.
ولا تحدث العلمنة في كل مكان دفعة واحدة؛ إنها تحدث عندما تكون البلدان قد حققت مستويات عالية من الأمن الوجودي، وحتى عندئذٍ عادة ما تتحرك بوتيرة جليدية بينما يحل جيل محل آخر. حتى أنها يمكن أن تعكس نفسها، حيث تصبح المجتمعات أكثر تديناً إذا عانت من فترات طويلة من تراجع الأمن. وقد بدأت العلمنة في الصعود تدريجيًا منذ القرن التاسع عشر، بدءًا من مجتمعات أوروبا الغربية وأميركا الشمالية الأكثر أمانًا من الناحيتين الاقتصادية والمادية، ثم انتشرت إلى أجزاء أكثر فأكثر من العالم.
على الرغم من أن العلمنة تحدث عادةً بوتيرة الإحلال الجيلي للسكان، فإنها يمكن أن تصل إلى نقطة تحول عندما يتغير الرأي السائد، ويبدأ الناس -متأثرين بقوى التوافق والرغبة الاجتماعية- في تفضيل النظرة التي عارضوها ذات يوم -ما ينتج عنه تغيير ثقافي سريع بشكل استثنائي. وقد صلت الفئات الأصغر سناً والأفضل تعليماً في البلدان ذات الدخل المرتفع إلى هذه العتبة مؤخرًا.
لماذا يفقدون تدينهم؟
تساعد عوامل أخرى عدة غير المستويات المتزايدة للتطور الاقتصادي والتكنولوجي في تفسير تراجع الدين. في الولايات المتحدة، كانت السياسة مسؤولة عن بعض التراجع. منذ التسعينيات، سعى الحزب الجمهوري إلى كسب الدعم من خلال تبني مواقف مسيحية محافظة بشأن زواج المثليين، والإجهاض، وقضايا ثقافية أخرى. لكن هذا القبول السياسي لدى الناخبين المتدينين كانت له نتيجة طبيعية مُلازمة، تتمثل في إبعاد الناخبين الآخرين، وخاصة الشباب والمتحررين ثقافيًا، عن الدين. كان يُفترض ذات مرة بشكل عام أن المعتقدات الدينية هي التي تشكل وجهات النظر السياسية وليس العكس. لكن الأدلة الحديثة تشير إلى أن العلاقة السببية يمكن أن تسير في الاتجاه الآخر: وجدت دراسات الفريق أن العديد من الناس يغيرون وجهات نظرهم السياسية أولاً ثم يصبحون أقل تديناً.
أدى الاحتضان غير النقدي للرئيس دونالد ترامب- وهو زعيم لا يمكن وصفه بأنه نموذج للفضيلة المسيحية- من قبل العديد من الإنجيليين البارزين إلى تخوف الإنجيليين الآخرين من أن يتخلى الشباب عن كنائسهم بأعداد كبيرة، وبطريقة تُسرّع اتجاهاً حاضراً أصلاً. ومن جانبها، فقدت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أتباعها بسبب أزماتها. في وقت سابق من هذا العام، وجد “مركز بيو للأبحاث” أن 92 في المائة من البالغين في الولايات المتحدة هم على دراية بالتقارير الأخيرة التي تحدثت عن اعتداءات جنسية ارتكبها قساوسة كاثوليك، وقال حوالي 80 في المائة ممن شملهم الاستطلاع إنهم يعتقدون أن الانتهاكات هي “مشاكل مستمرة ما تزال تحدث”. ووفقًا لذلك، قال 27 بالمائة من الكاثوليك الأميركيين الذين شملهم الاستطلاع إنهم قلصوا حضورهم في القداسات استجابة لهذه التقارير.
ولكن، ربما تكون أهم قوة وراء العلمنة هي حدوث تحول في المعايير والأعراف التي تحكم الخصوبة البشرية. على مدى قرون عديدة، خصصت معظم المجتمعات للمرأة دور إنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال، ولم تشجع الطلاق والإجهاض والمثلية الجنسية ومنع الحمل وأي سلوك جنسي غير مرتبط بالإنجاب. وتختلف الكتابات المقدسة للديانات الرئيسية في العالم اختلافًا كبيرًا، لكن كل ديانات العالم تقريباً، كما أوضحنا، نوريس وأنا، غرست هذه المعايير المؤيدة للخصوبة في أتباعها. وقد أكدت الأديان أهمية الخصوبة لأنها ضرورية. ففي عالم اتسم بارتفاع معدل الوفيات بين الرضع وانخفاض متوسط العمر المتوقع اللذين سادا حتى وقت قريب، كان على المرأة المتوسطة أن تنجب خمسة إلى ثمانية أطفال من أجل إحلال السكان، ببساطة.
خلال القرن العشرين، حقق عدد متزايد من البلدان انخفاضًا كبيرًا في معدلات وفيات الرضع وارتفاع متوسط العمر المتوقع بحيث لم تعد هذه المعايير الثقافية التقليدية ضرورية. ولم تحدث هذه العملية بين عشية وضحاها. فقد طرحت الديانات الرئيسية في العالم قواعدها المؤيدة للخصوبة كقواعد أخلاقية مطلقة وقاومت التغيير بشدة. وعادة ما يتخلى الناس ببطء فقط عن المعتقدات المألوفة والأدوار المجتمعية التي عرفوها منذ الطفولة فيما يتعلق بالجندرية والسلوك الجنسي. ولكن، عندما يصل مجتمع إلى مستوى عالٍ بدرجة كافية من الأمن الاقتصادي والبدني، فإن الأجيال الشابة تنشأ على اعتبار هذا الأمان شأناً مفروغًا منه، وتتراجع المعايير المتعلقة بالخصوبة. وقد أصبحت الأفكار والممارسات والقوانين المتعلقة بالمساواة بين الجنسين، والطلاق، والإجهاض والمثلية الجنسية تتغير الآن بسرعة.
وهو تحول قابل للقياس الكمي. وتعرض البيانات التي تم جمعها في “مسح القيم العالمية” على مر السنين لمحة عن تحول عميق. ويستخدم الاستطلاع مقياسًا من عشر نقاط قائماً على قبول كل دولة للطلاق والإجهاض والمثلية الجنسية. وتقع نقطة التحول حول منتصف المقياس، عند 5.50: تشير الدرجات المنخفضة إلى أن لدى غالبية سكان للبلد المعنيّ آراءً أكثر تحفظًا، وتشير الدرجات الأعلى إلى أن لدى الأغلبية آراء أكثر ليبرالية تركز على الاختيار الفردي. وحوالي العام 1981، دعمت الأغلبية في كل دولة لدينا بيانات عنها القواعد المؤيدة للخصوبة. وحتى في البلدان ذات الدخل المرتفع، تراوح متوسط الدرجات من مقدار منخفض مثل 3.44 (إسبانيا)، 3.49 (الولايات المتحدة)، 3.50 (اليابان)، 4.14 (المملكة المتحدة)، و4.63 (فنلندا) إلى مرتفع مثل 5.35 في السويد -التي كانت في ذلك الحين الدولة الأكثر تحرراً، وإنما بدرجة ظلت أقل قليلاً من نقطة تحول المقياس. لكن تغيراً عميقاً كان قادماً على الطريق. بحلول العام 2019، ارتفع متوسط علامات إسبانيا إلى 6.74، والولايات المتحدة إلى 5.86، واليابان إلى 6.17، والمملكة المتحدة إلى 6.90، وفنلندا إلى 7.35، والسويد إلى 8.49. وكانت درجات كل هذه البلدان أقل من نقطة التحول عند 5.50 في المسح الأول، وكلها أصبحت فوقها بحلول العام 2019. وتقدم هذه الأرقام صورة مبسطة لواقع معقد، لكنها تكشف عن حجم التسارع الأخير للعلمنة.
كان هذا الاتجاه ينتشر إلى بقية العالم، مع استثناء واحد رئيسي. ظلت علامة سكان البلدان الثمانية عشر ذات الأغلبية المسلمة، التي تتوفر عنها بيانات في “مسح القيم العالمية”، أقل بكثير من نقطة التحول، وظل الناس هناك متدينين بشدة وملتزمين بالحفاظ على الأعراف التقليدية المتعلقة بالجندر والخصوبة. وحتى مع السيطرة على التنمية الاقتصادية، تميل البلدان ذات الأغلبية المسلمة إلى أن تكون إلى حد ما أكثر تديناً ومحافظة ثقافيًا من المتوسط.
الأشياء لن تتداعى
على مدى قرون، كان الدين بمثابة قوة للتماسك الاجتماعي، والحد من الجريمة وتشجيع الامتثال للقانون. ويغرس كل دين رئيسي في أتباعه نسخة من الوصايا التوراتية: “لا تسرق” و”لا تقتل”. ولذلك، من المفهوم أن المحافظين المتدينين يخشون أن يؤدي تراجع الدين إلى حدوث فوضى اجتماعية، مع تصاعد الفساد والجريمة. لكن الأدلة لا تدعم، إلى حد مدهش، هذا القلق.
منذ العام 1993، رصدت منظمة الشفافية الدولية الفساد النسبي وصدق المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال في جميع أنحاء العالم. وفي كل عام، تنشر هذه المجموعة الرقابية مؤشر مدركات الفساد، الذي يصنف الفساد في القطاع العام في 180 دولة ومنطقة. وتتيح هذه البيانات اختبار العلاقة الفعلية بين التدين والفساد: هل الفساد أقل انتشارًا في البلدان المتدينة منه في البلدان الأقل تديناً؟ والجواب واضح لا لبس فيه -في واقع الأمر، تميل الدول الدينية إلى أن تكون أكثر فسادًا من الدول العلمانية. وتتمتع دول الشمال العلمانية بأدنى مستويات الفساد في العالم، كما أن لدى البلدان شديدة التدين، مثل بنغلاديش، وغواتيمالا، والعراق، وتنزانيا وزيمبابوي، بعض من أعلى مستوياته.
من الواضح أن التدين لا يسبب الفساد. وتميل البلدان ذات المستويات المنخفضة من الأمن الاقتصادي والمادي إلى مستويات عالية من التدين، وكذلك مستويات عالية من الفساد. وعلى الرغم من أن الدين لعب دورًا حاسمًا في دعم الأخلاق العامة، إلا أن هذا الدور يتقلص مع تطور المجتمعات اقتصاديًا. ويغلب أن يُدين الناس في الدول الدينية الفساد أكثر قليلاً من الناس في الدول الأقل تديناً، لكن تأثير الدين على السلوك ينتهي عند هذا الحد. قد يجعل الدين الناس أكثر ميلاً إلى عقاب الآخرين، لكنه لا يجعلهم أقل فسادًا.
وينطبق هذا النمط أيضًا على جرائم أخرى، مثل القتل العمد. كما قد يبدو مفاجئًا، فإن معدل القتل أعلى بأكثر من عشرة أضعاف في البلدان الأكثر تديناً مما هو في البلدان الأقل تديناً. ولدى بعض البلدان الفقيرة نسبيًا معدلات قتل منخفضة، لكن البلدان المزدهرة التي توفر لسكانها الأمن المادي والقانوني هي، بشكل عام، أكثر أمانًا من الدول الفقيرة. ولا يعني ذلك أن التدين يتسبب في القتل بطبيعة الحال، لكنّ كلاً من الجريمة والتدين يميلان إلى الارتفاع في المجتمعات ذات المستويات المنخفضة للأمن الوجودي.
تشير الأدلة إلى أن المجتمعات الحديثة لن تهبط إلى الفوضى العدمية من دون إيمان ديني يعصمها، لكنَّ هذا ربما لم يكن هو واقع الحال دائمًا. في المجتمعات الزراعية المبكرة، عندما كان معظم الناس يعيشون فوق مستوى البقاء بقليل، ربما كان الدين هو الطريقة الأكثر فعالية للحفاظ على النظام والتماسك. لكن التحديث غيَّر المعادلة. مع انخفاض التدين التقليدي، يبدو أن مجموعة قوية من المعايير الأخلاقية بدأت في الظهور لملء الفراغ. وتشير الدلائل المستمدة من “مسح القيم العالمي” إلى أن الناس في البلدان التي تتمتع بدرجة عالية من الأمن والعلمانية، يعطون باطراد أولوية عالية للتعبير عن الذات والاختيار الحر، مع التركيز المتزايد على حقوق الإنسان، والتسامح مع الغرباء، وحماية البيئة، والمساواة بين الجنسين، وحرية التعبير.
يمكن أن تكون الأديان التقليدية مثيرة للانقسام بشكل خطير في المجتمع العالمي المعاصر. فالأديان تميل بطبيعتها إلى تقديم معاييرها كقيم مطلقة، على الرغم من أنها تعكس في الواقع تاريخ مجتمعاتها وخصائصها الاجتماعية والاقتصادية. ويمكن أن يؤدي جمود أي نظام عقائدي مطلق إلى عدم التسامح المتعصب، كما أظهرت الصراعات التاريخية بين الكاثوليك والبروتستانت والمسيحيين والمسلمين.
مع تطور المجتمعات من زراعية إلى صناعية إلى قائمة على المعرفة، يميل الأمن الوجودي المتزايد إلى تقليل أهمية الدين في حياة الناس، ويصبح الناس أقل طاعة للزعماء والمؤسسات الدينية التقليدية. ويبدو استمرار هذا الاتجاه مرجحاً، لكن المستقبل دائمًا ما يكون غير مؤكد. وعادة ما تقلل الأوبئة، مثل “كوفيد-19” من إحساس الناس بالأمن الوجودي. وإذا استمر وجود هذا الوباء لأعوام عديدة أو أدى إلى “كساد عظيم” جديد، فقد تبدأ التغيرات الثقافية التي حدثت في العقود الأخيرة في عكس وجهتها.
لكن هذا التحول يظل غير مرجح، لأنه سيتعارض مع الاتجاه القوي طويل الأجل والمدفوع بالتكنولوجيا من الازدهار المتزايد وزيادة متوسط العمر المتوقع، الذي يساعد على دفع الناس بعيدًا عن الدين. وإذا ما استمر هذا الاتجاه، فإن التأثير الذي تمارسه السلطات الدينية التقليدية على الأخلاق العامة سوف يستمر في التقلص بينما تصبح ثقافة التسامح المتنامي أكثر قوة باطراد.

*Ronald F. Inglehart عالِم سياسي، مؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً “الانحدار المفاجئ للدين: ما الذي يسببه وماذا سيأتي تالياً؟

(فورين أفيرز) عدد أيلول (سبتمبر)/ تشرين الأول
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Giving Up on God: The Global Decline of Religion

قد يعجبك ايضا