الضمانات الدستورية لحرية الدين والمعتقد في سورية الجديدة

نادر جبلي

جسر:مقالات:

تبدو حرية الدين والمعتقد واحدة من أهمّ القضايا الإشكالية التي ستعترض طريقنا نحو بناء دولتنا الوطنية الحديثة، إن بسبب التنوع الطائفي والمذهبي الذي تذخر به بلدنا، سورية، أو بسبب هذا الشحن الطائفي المهول الذي حصل نتيجة مآسي السنوات العشر الأخيرة، أو بسبب سوء الفهم الذي يحيط بالمفهوم، أو بسبب اصطدام المفهوم، في بعض أبعاده، بأحكام الشريعة الإسلامية، على الأقلّ كما يراها من ينصّبون أنفسهم حراسًا للدين. يضاف ذلك إلى ما يذخر به مجال الدين والمعتقد من مشكلات وصراعات مؤلمة، بدأت مع ظهور الأديان، ولم تتوقف حتى يومنا هذا. خاصة في هذا الجزء المنكوب من العالم، والمسمّى بالشرق الأوسط. لذلك رأينا مقاربة الموضوع عبر هذا الجهد المتواضع، وفتح النقاش العام حوله، لعلّنا نسهم في إزالة ما أمكن من سوء الفهم هذا، أو تقليصه وتخفيف آثاره. ومن ثمّ نُسهم في تخفيف مشقة الطريق نحو اعتماد نصوص دستورية وقانونية عصرية، تتماهى مع حقوق الإنسان بالمستوى الذي تحدده الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، والتي أصبحت تشكل، بوثائقها/ مواثيقها الثلاثة، ما يسمى بالقانون الدولي لحقوق الإنسان.

إذن؛ ثمة إشكالية تعترض طريقنا نحو تفهُّم وتبنِّي نصوص صريحة، تحترم وتحمي حرية الدين والمعتقد بمستواها المحدد في الشرعة، والسبب المباشر والظاهر لهذه الإشكالية هو عدم قابلية بعض أحكام الشريعة الإسلامية (التي يدين بها غالبية السوريين) للتصالح مع بعض أجزاء أو أبعاد أو متطلبات هذا الحق/ الحرية. لكن الأسباب الحقيقية غير المباشرة وغير المعلنة هي في مكان آخر. وأختصرها بسببين، غالبًا ما يتضامنان مع بعضهما: الأول هو وجود جماعات إسلامية سلفية منغلقة، تفهم الإسلام بطريقة خشبية، وتعدّ نفسها وصية على الدين، وتحاول فرض رؤيتها على المجتمع بكل الوسائل، حتى العنف والإرهاب. وهؤلاء كانوا قلة غير وازنة في سورية قبل الثورة، لكن يبدو أنهم أصبحوا الآن، بعد هذه العُشرية المأساوية، أكثر عددًا وأثقل وزنًا وأصلب عودًا. والسبب الثاني هو وجود قوى سياسية انتهازية، في السلطة أو خارجها، تحاول دائمًا استغلال العاطفة الدينية، والمزاودة في مسائل الدين، لكسب الناس من جانب، والنيل من حرياتهم من جانب آخر.

والفريقان، القوى الإسلامية المنغلقة، والقوى السياسية الانتهازية، يعملان، كلٌ بطريقته، على انتهاك حقوق الإنسان، مستخدمين الذرائع نفسها، وعلى رأسها ذريعة “الخصوصية الحضارية والثقافية للمجتمع”، وذريعة “منع ازدراء الأديان”، وذريعة “حماية النظام العام والآداب العامة”… وهذه الذرائع تملك من الحجية والمعقولية ما يجعل من الصعب على المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان دحضها، فتضطر إلى إبداء التفهم، ومقاربة المشكلة بمنتهى الصبر والكياسة، على الرغم مما تنطوي عليه من تهديد لحقوق الإنسان وحرياته، مع معرفة المنظمات بما تخفيه تلك الذرائع غالبًا من أغراض سياسية. وليس مفاجئًا القول إن “الدول الأكثر انتهاكًا لحقوق الإنسان لمواطنيها هي التي تتذرع بالخصوصية الثقافية لمجتمعاتها للتهرب من استحقاق التزامها بالمبادئ العالمية لحقوق الإنسان”.

إذن، من واجبنا، في معرض سعينا نحو دستور عصري، ودولة حديثة، أن نتصدى لهذه الإشكالية ونحاول التخفيف من وطأتها ما استطعنا، عبر تحصين المنظومة القانونية، وعلى رأسها الدستور، ضد أي مسعى لاستخدامها بوابة عبور نحو انتهاك حرية الدين والمعتقد. وهذا ما سنحاول القيام به في هذه الدراسة.

تتناول الدراسة في الفصل الأول مبدأ حرية الدين والمعتقد، كما جاء في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وهي المواثيق المؤسِّسة لهذا الحق، والمرجع والمعيار لمراقبته وضبطه. ومنها نستخرج متطلباته، وننطلق لمناقشة كيفية تلبيتها في دستورنا ومنظومتنا القانونية. وننتقل في الفصل الثاني لمناقشة أبرز ما تتضمنه الشريعة الإسلامية، النص القرآني والأحاديث النبوية، من أحكام تؤثر، إيجابًا أو سلبًا، في احترام هذا الحق وتلبية متطلباته، ونتوقف مطولًا عند العقدة الأصعب، ترك الدين وحكم الردة. أما الفصل الثالث فينظر في الذرائع والوسائل التي تستخدمها الجماعات الإسلامية والقوى السياسية على حد سواء، لإهدار حرية الدين والمعتقد، ونتوقف مطولًا عند ذريعة الخصوصية الحضارية، وعند معاني وأبعاد وجود النص الديني في الدستور. ونخوض في الفصل الرابع في المعالجات الدستورية والقانونية لضمان حرية الدين والمعتقد، لنصل في الفصل الخامس، وهو الأخير، إلى وضع توصيات ومقترحات محددة وملموسة لما نراه من حلول وعلاجات.

من المفيد أن نوضّح منذ البداية أنه بسبب حاجة الدراسة إلى معرفة الموقف الفقهي السائد في البلاد تجاه القضايا المتصلة بحرية الدين والمعتقد، فقد تناولت الأمر الديني والفقهي من هذا الجانب فقط، وبهذا المقدار فقط، دون زيادة أو نقصان. ولم تخض في المسائل الدينية والفقهية، ولم تنحز، ولم تطلق أحكام قيمة على هذا التوجه الفقهي أو ذاك. فلا غرضها يتطلب ذلك، ولا صاحبها مؤهل لذلك. كذلك نأمل أن لا يُفهم من عرضنا للموقف الفقهي السائد أننا نرى جميع الفقهاء على هذا الموقف، أو أننا لا نلاحظ وجود فقهاء معاصرين مجددين يملكون رؤية عصرية مختلفة.

بقي أن أقول إنني استحسنت اللجوء إلى بعض الاختصارات للتعبير عن جمل تتكرر بكثرة في هذا الدراسة، وهي على الشكل التالي:

الشرعة: هي الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، والمكونة من ثلاث وثائق هي: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى البروتوكولين الاختياريين الملحقين بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

الإعلان: هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المعتمد من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948.

العهد: هو العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المعتمد من الجمعية العامة للأمم المتحد ة عام 1966. اللجنة: هي اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، والمُنشأة بموجب الجزء الرابع من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والمكلفة بالإشراف على تنفيذ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

المصدر: موقع حرمون

قد يعجبك ايضا