المنطقة الأمنية في مهب ريح المماطلة الأمريكية!

رأي- عبدالناصر العايد

بعد نحو أسبوع على ختام المفاوضات الأميركية/التركية حول المنطقة الأمنية، ما تزال المعلومات حولها مشوشة ومتباينة، إذ أن مجمل التصريحات التركية الفضفاضة والأميركية المقتضبة، لا تشي بحدوث اتفاق نهائي.

تصريحات الطرفين لم تذكر أسماء مناطق، ولا أرقاماً تخص أبعاد المنطقة ومساحتها، ولا برنامج أو مواقيت زمنية. أي لا معطيات يستطيع العسكريون من خلالها رسم خرائطهم، وبالتالي تنفيذها على أرض الواقع. وسيقتضي الأمر في هذه الحالة الكثير من الوقت، لدخول الاتفاق مرحلة التنفيذ الفعلي أياً كانت صيغته، وهو ما يدفع للاعتقاد بأن ما حدث هو محاولة أميركية لامتصاص الغضب التركي، مقابل خفض انقرة لنبرتها التصعيدية. وهذا يقود للتفكير تلقائياً باتفاق “خريطة الطريق” حول منبج، الذي افضى بعد سنة من إعلانه إلى بضعة دوريات مشتركة تتجول في محيط البلدة، وتسجل ملاحظات، ترفع للجانب الأميركي لمناقشتها وسط تذمر تركي دائم. ولعل اتفاق المنطقة الأمنية الجديد لن يخرج عن ذلك السياق، إلا بشموله مساحة أوسع.

النقاط الخلافية

النقاط الخلافية الكبرى ما تزال قائمة، وتتمحور حول ثلاث مسائل؛ أولها أبعاد المنطقة المقترحة، والتي تريد تركيا أن تتسع لتلتهم نحو ثلث مناطق سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية”، بينما يرى الاميركيون أن 5 إلى 10 كيلومترات جنوبي الحدود التركية كافية. والنقطة الثانية هي من سيتواجد في تلك المنطقة، إذ يريد الاتراك أن تتواجد قوات تركية إلى جانب مقاتلين من الفصائل السورية المرتبطة بها، فيما لا يقبل الاميركيون سوى بـ”دوريات” مشتركة، تدون ملاحظاتها فيما يخص الأمن القومي التركي وترفعها إلى مركز التنسيق المشترك. وستنسحب “قسد” من تلك المنطقة لتشغلها قوات من “المكون العربي”، وهي قوات حرس الحدود التي بدأت واشنطن بتشكيلها مطلع هذا العام، وخصص لها البنتاغون مبلغ 48 مليون دولار سنوياً، بهدف تجنيد 24 ألف مقاتل في العام 2019، يضاف إليهم 18 ألفاً حتى العام 2020. وستكون مهمة تلك القوات العمل في المنطقة الحدودية مع تركيا والعراق. أما النقطة الثالثة، فهي الطموح التركي لزج اعداد كبيرة من السكان العرب المُهجّرين من مناطقهم في ذلك الشريط الحدودي، وإقامة جدار عازل على خاصرتها الجنوبية.

مفاعيل سياسية

عدم تبلور الاتفاق العسكري لا يعني أن تطوراً لم يحدث، بل أن مجرد الرغبة المشتركة به والافصاح عن إمكانية حصوله ترافق مع تغيير في الرؤى على المشهد السياسي في سوريا وحولها، وأهم ما يمكن الإشارة إليه هو تحسن العلاقات الاميركية/التركية، بعد توترها على خلفية صفقة أس-400 وإلغاء الشراكة التركية في برنامج المقاتلة إف-35 الأميركية. لكن هذا بحدّ ذاته لن يؤثر اليوم على العلاقات التركية/الروسية التي تبدو على درجة عالية من التنسيق والانسجام والتشابك على مستويات متعددة، فليس من المتوقع أن تهتزّ تفاهمات الطرفين حالياً، فهي أبعد وأعمق من هذه القضية. ولا يُستبعد أن يكون ثمّة دفع روسي لتركيا للإقدام على عمليات عسكرية على الحدود، والتمرد على واشنطن، على أن تأخذ موسكو على عاتقها الدفاع عن هذه الخطوة التركية دولياً، متذرعة باتفاقية أضنة المعقودة مع النظام السوري، محققة أهدافاً متعددة بحجر واحد.

ولن يؤثر ذلك أيضاً على ما تفاهمات انقرة وموسكو وطهران فيما يخص ادلب، والتي لا يعكرها سوى نزعة قوات النظام العجولة لاستعادة السيطرة على تلك المنطقة الخطرة، التي تنظر إليها موسكو على أنها ورقة تفاوض استراتيجية مع الغرب، ولا يجوز حرقها في هذه المرحلة، بالسيطرة عليها وإخراج تنظيم “القاعدة” منها. هذا بالإضافة إلى استمرار الوجود الاميركي في الشمال الشرقي، الذي يعيق فعلياً أي إمكانية لفرض الحل الروسي الشامل في عموم الأرض السورية. اسقاط نفوذ “القاعدة” في ادلب لن يكون وارداً روسياً، قبل رحيل القوات الاميركية من شمال شرق سوريا، وثمناً له.

انقرة ايضاً تتعامل مع ملف ادلب من هذا المنظور، لكن في نطاق جيوبولتيكي، إذ تعتبر إن ملف ادلب وشمال حلب هي الورقة الوحيدة المتاحة لها للتفاوض على مصير الكيان الكردي شرقاً، فيما لو انسحب الأميركيون وتركوا تلك المنطقة للروس وللنظام. تركيا لن ترفع يدها عن الشمال الغربي قبل حل معضلة الشمال الشرقي. وهذه المسألة لن تحلّ وفقاً للتصور التركي حتى لو تمت الموافقة على المنطقة الأمنية التي تقترحها.

لكن التلويح باستعادة دفء العلاقة الاميركية التركية سيوسع هامش مناورة أنقرة أمام شريكيها في مسار استانة، خاصة أمام ايران، التي تعاني من أوضاع صعبة في هذه المرحلة، ويشهد دورها في سوريا انخفاضاً غير مسبوق في النبرة والحضور. ومن غير المعلوم كيفية تصرف الاتراك بذلك الهامش، ولكن يمكن التفكير بمنطقة تل رفعت في ريف حلب، التي تسيطر عليها “وحدات الحماية” الكردية، وتعيق الاتصال بين منطقتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”. وقد يتم التوافق على رفع يد الحماية الروسيّة عنها، مقابل رفع اليد التركية عن بعض مناطق ادلب والسيطرة تركياً عليها.

ويمكن أن يمثل الاتفاق في أحد جوانبه حال دخوله موضع التنفيذ، ضربة لمشروع “قسد”، إلا أن أي اتفاق هو في النهاية “شبه” اعتراف بها، كاتفاق بينها وبين دولة مجاورة. كما أن الاتفاق يجعل من تحالف “قسد” مع واشنطن موثق باتفاقيات والتزامات دولية لا يمكن تجاهلها.

ومن ناحية أخرى سيمكن الاتفاق “قسد” من التفرغ لبناء مشروعها في العمق، واستثمار موارد المنطقة خاصة النفطية، التي يمكن للمنطقة الآمنة أن تكون مكاناً لتصريف تلك الثروة، في ظل الحظر الاميركي للتعامل التجاري مع النظام. ويمكن لتلك المنطقة ان تكون ساحة لتبادل تجاري نشط بين مناطق سيطرة “قسد” وكردستان العراق وتركيا، ومنطلق لعمليات إعادة الاعمار المتوقعة في الشمال الشرقي.

الاتفاق أيضاً إن حصل سيغلق باب التفاوض مع النظام، الذي سبق وطرقته “الإدارة الذاتية” مراراً وقوبل بالرفض من طرف دمشق. وستقتصر العلاقات على المصالح المتبادلة بينهما فيما يخص مناطق سيطرة دمشق على مناطق في الحسكة والقامشلي، واستمرار ذلك، مقابل رعاية الوجود الكردي في المناطق التي تسيطر عليها “وحدات الحماية” في مناطق النظام شمالي حلب، إضافة إلى بعض التسهيلات الإدارية والخدمية التي يحتكرها النظام، بفضل تمتعه بـ”السيادة الرسمية”.

أبعد من الاتفاقية..

لطالما اتخذت إدارات أميركية مواقف مماطلة، أو متناقضة إزاء الكثير من القضايا، يدعمها في ذلك هامش المناورة الكبير المتاح لها كأعظم قوة في العالم، وهي لن تجد صعوبة في نفي أو نقض أي اتفاق مع تركيا أو غيرها، وفي الوقت الذي تشاء. ويمكن لإشارة صغيرة مثل تصريح البنتاغون بأن “تنظيم داعش قد عاود الظهور في سوريا”، إن تكون منطلقاً لسياسة جديدة كلياً على الساحة السورية. نقض التفاهم مع أنقرة، وجعل الشمال الشرقي السوري قاعدة أميركية ثابتة لمواجهة التوسعية الايرانية، وللتفاوض مع موسكو والنظام حول أمن إسرائيل. وبطبيعة الحال يمكن أن تنقلب كلياً تلك المواقف، على شكل انسحاب أميركي كامل، قد يضع جميع الأطراف في مواجهة بعضهم البعض.

قد يعجبك ايضا