بشار الواضح..والعالم المخدوع

عقيل حسين

جسر:مقالات:

أظهرت الرسائل المسربة من البريد الإلكتروني لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون نصيباً وافراً من الاهتمام بالشأن السوري بعد العام 2011، بما في ذلك السعي لمعرفة آلية تفكير النظام وهو يواجه الانتفاضة الشعبية ضده، ومحاولة فهم رئيس النظام بشار الأسد ودوره في هذه المواجهة، والذهنية التي يدير بها “الأزمة”.

في إحدى الرسائل التي وصلت إلى بريد كلينتون في شباط/فبرير 2012، ينقل الموظفون في مكتبها عن مصدر “حساس” تربطه علاقات مع مسؤولين في النظام السوري، أنه كوّن معطيات كافية عن عقلية بشار الأسد. ويختصر هذه العقلية بأنها “خبيثة وقادرة على التحايل”، أما سياسياً فهو شديد التمسك بالسلطة ومستعد للقتال من أجل الحكم حتى النهاية، رغم أنه يحاول باستمرار أن يظهر عكس ذلك.
وإذا كان هذا “المصدر” ينبّه في بداية رسالته إلى ضرورة عدم اعتبار الأسد “منفصلاً عن الواقع” كما يحاول هو شخصياً الايحاء بذلك بغرض إبقاء الآمال معلقة عليه، فإن الرسالة تسهب في شرح خطة الأسد نفسه لاحتواء صدمة الثورة الشعبية ضد نظامه والقضاء عليها.
والواقع أن محاولة فهم شخصية بشار الأسد كانت مهمة معقدة للجميع، على اعتبار أن غالبية رجالات النظام ومؤسسات الدول الإقليمية والغربية لم تكن تتوقع أن يتمكن من وراثة منصب والده الراحل عام 2000، إذ وعلى الرغم من التمهيد المبكر الذي بدأ يعمل عليه الأسد الأب بعد وفاة نجله الأكبر باسل عام 1993، إلا أن الكثيرين اعتقدوا أن الأمر سيؤول في نهاية المطاف إلى أحد رجالات النظام الذين لن يقبلوا بأن يقودهم شاب يُنظر إليه على أنه ضعيف الشخصية ولا يمتلك المؤهلات الكاملة ولا المواصفات المطلوبة لكي يخضعوا له.
لكن نجاح الأسد دفع الجميع للعمل بسرعة من أجل التعرف على شخصية رئيس سوريا الجديد، فحضرت وزيرة خارجية الولايات المتحدة وقتها مادلين أولبرايت جنازة الأسد الوالد، والتقت خليفته وخرجت بانطباعات “جيدة” عنه باعتباره “رجلاً إصلاحياً يمتلك ثقافة غربية وانفتاحاً جيداً”، لتكون أول ضحايا الأسد الابن الذين تمكن من خداعهم لاحقاً.
ثاني أشهر ضحايا بشار الأسد هو الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، الذي أبدى مبالغة شديدة بالعلاقة مع رئيس سوريا الجديد، وبذل جهوداً كبيرة في تسويقه ودعمه دولياً، وانعكس ذلك اهتماماً كبيراً بالأسد وزوجته في الصحافة الغربية حتى اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، حيث دخل بشار الأسد ونظامه بعدها في ثاني أزماته الخطيرة، بعد أن تجاوز الأولى التي تمثلت بتهديدات جورج بوش الابن بغزو سوريا عقب احتلال العراق عام 2003.
المفارقة أن ثالث ضحايا بشار الأسد على هذا الصعيد كان رئيساً فرنسياً أيضاً هو نيكولا ساركوزي الذي خلف شيراك بمحاولة إعادة العلاقات مع النظام السوري بعد الحصول على وعود من الأسد بالتعاون من أجل السلام مع إسرائيل وتعزيز الاستقرار في العراق ولبنان والابتعاد عن إيران، بالإضافة طبعاً إلى ملف الإصلاحات الداخلية، وهو ما لم يتحقق بطبيعة الحال.
هذا على صعيد الضحايا الخارجيين، أما داخلياً فقد كان قادة النظام من رجالات حافظ الأسد أول ضحايا بشار، فبعد أن اعتقدوا أنه يمكن التحكم بالرئيس الجديد، على الأقل طالما أنهم لم يتمكنوا من إقصائه، فوجئوا بأن هذا الشاب الدمث في معاملته مع كل من كان يخاطبهم بلقب “عمو” من نواب والده وقادة جيشه وأجهزته الأمنية، نجح في تهميش “الحرس القديم” وتمكن من ابعادهم واحداً تلو الآخر.
وهنا يتذكر الجميع كيف نجح بشار الأسد في توريط نائبه عبد الحليم خدام ووضعه بمواجهة مع المعارضين الذين توسموا خيراً مع بدايات حكمه، فأعادوا افتتاح المنتديات وأطلقوا ما عُرف بربيع دمشق. وبينما كان الأسد يوجه فعلياً بتقويض هذا الحراك، كان رجالات الحرس القديم يتصدون لهذه المهمة نيابة عنه، فوقف عبد الحليم خدام ليعلن على سبيل المثال عام 2004 أنه لا يمكن إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تقضي بأن “حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع”، كما ينقل الكثير من قادة المعارضة عنه سخريته منهم وتهديداته لهم أيضاً، الأمر الذي أسعد بشار الأسد بلا شك، وأزاح عن كاهله مهمة المواجهة مع دعاة الديمقراطية شخصياً.
عام 2011 ومع انطلاقة الثورة السورية، توقع الكثيرون أن يتدخل الأسد بشكل إيجابي من أجل منع تفاقم الأزمة، بل إن الكثيرين من المؤيدين للنظام، وفي مقدمتهم العلويون، كانوا يأملون بأن يحافظ الأسد على السلطة لكن مع الحفاظ على استقرار البلاد من خلال معالجة حكيمة للأسباب المباشرة وغير المباشرة التي أدت للانتفاضة الشعبية، ورغم أن الرسالة التي تم تسريبها من بريد هيلاري كلينتون تشير إلى الخطاب الأول لرئيس النظام الذي ألقاه عقب شهرين من اندلاع الثورة باعتباره “أحد وجوه الخداع والتضليل التي مارسها بشار الأسد تجاه الداخل والخارج” في آن معاً، إلا أن أمرين اثنين لا يمكن للسوريين أن ينسوهما على هذا الصعيد.
الأول هو مؤتمر الحوار الوطني الذي دعا إليه الأسد وكلف نائبه فاروق الشرع برئاسته، ورغم مشاركة بعض المعارضين والناشطين فيه، لكنه تأكد لاحقاً أنه كان بالفعل كما توقع المعارضون الذين قاطعوه، وهم الغالبية، بأنه مجرد مناورة من النظام، بل إن البعض ينقل عن الشرع نفسه أنه اعتبر نفسه قد تعرض للخداع شخصياً.
والأمر الثاني هو اللقاءات التي عقدها الأسد مع وجهاء المجتمع وشيوخ العشائر ورجال الدين والنخب والناشطين الذين تمت دعوتهم للقاء رئيس النظام على مدار النصف الثاني من عام الثورة الأول، حيث خرج الغالبية من هذه الجلسات وهم متيقنين “أنه يتلاعب بهم” حسب تعبير الكثير منهم لاحقاً، وأن ما كان يريده من خلال هذه اللقاءات، هو استبدال الحوار مع المعارضة بخداع الجميع أنه يحاور الشعب مباشرة.
يحمل العقد الأول من حكم بشار الأسد الكثير من الأمثلة عن تلاعبه بخصومه وحلفائه على حد سواء، كما حدث مع الاخوان المسلمين وتركيا وغيرهم. وعلى مدار السنوات التسع الماضية، كشف العديد من المسؤولين في دول أخرى عن وعود قطعها لهم بشار الأسد في العام الأول من الثورة بتنفيذ إصلاحات، لكنه حنث بكل هذه الوعود…فهم السوريون مبكراً شخصية رئيسهم بينما ظلت مخابرات العالم تحاول فهمه على مدار أكثر من عقد، ولذا فقد أكدت المعارضة منذ البداية للعالم كله أن أي حوار معه هو مضيعة للوقت وإطالة في عمر المأساة واستسلام لخداع لن ينتهي حتى سقوط النظام.

المصدر:صحيفة المدن

قد يعجبك ايضا