زلزال تركيا – سوريا… بين العلم والغيبيات ونظريات المؤامرة

صادق الطائي

ما زلنا تحت تأثير كارثة الزلزال العنيف وتوابعه التي ضربت جنوب تركيا وشمال سوريا، وامتدت لبعض دول الشرق الأوسط. ومن اللحظات الأولى للكارثة تجدد النقاش بين مروجي الأفكار الغيبية الشعبوية، الذين يحاولون تفسير أي ظاهرة وفق رؤيتهم الإشكالية، ليواجهوا برفض ذوي الأفكار العلمية الذين يتحدثون بمنطق العلم وتحليلاته. وفي وقت مبكر من الكارثة دخلت على خط تفسير الأحداث عدة نظريات مؤامرة، تم تفنيد بعضها بينما ما تزال الكثير من نظريات المؤامرة تدور على صفحات التواصل الاجتماعي.

في كل كارثة طبيعية أو صحية يمر بها العالم تتكاثر الأصوات الدينية الشعبوية، لتستثمر خوف الناس وهلعهم للترويج لبعض المفاهيم الغيبية، ولم يخرج الزلزال الأخير عن ذلك، إذ احتلت مواقع التواصل الاجتماعي منشورات قدمت تفسيرات غيبية لهذه الظاهرة الطبيعية، إذ سارع رجال دين ومبشرون مسلمون، مثل الشيخ المصري عبد الله رشدي، أو اللبناني سامي خضرا، أو الكاتب السوري عبد الدائم كحيل، للحديث عن «عقاب إلهي» أو لـ»استحضار» أحاديث منسوبة للنبي محمد (ص) أو الخلفاء الراشدين عن «العقوبات الإلهية» و»قيام الساعة» و»نهاية العالم». في المقابل ذهبت صفحات مسيحية للحديث عن نبوءات لقديسين عن «اختفاء تركيا» عن الخريطة، أو إلى استحضار ما نقل عن المسيح في إنجيل لوقا عن «خراب أورشليم» وحلول «يوم الرب» الذي يصفه الكتاب المقدس بأنه «يوم عظيم ومخوف».

ولم يتخلف اليهود عن بقية أتباع الديانات الإبراهيمية في هذا الهجوم الشعبوي، إذ سارع الكاتب الإسرائيلي إيدي كوهين لتفسير ما جرى بأنه «غضب الرب» على تركيا بسبب مواقفها السياسية، مستحضرا نبوءات من سفر إرميا من العهد القديم عن خراب دمشق، في ما كانت النقاشات دائرة على مواقع التواصل باللغة العبرية حول ما أذا كان هذا الزلزال علامة على اقتراب ظهور المسايا المنقذ، أو المنتظر (المسيح اليهودي). لكن في كل مرة يتم فيها الترويج لهذه الأفكار يقابلها عقلانيون بطروحات علمية تحاول فصل الديني بصفته الأخلاقية عن الأحداث والكوارث الطبيعية، ولا يخلو الوسط الديني من بعض الآراء المتنورة التي تحاول أن تقدم مثل هذه التفسيرات، إذ نشر الشيخ اللبناني ياسر عودة، فيديو وصف فيه التفسيرات الدينية للكوارث الطبيعية بأنها «إساءة لله وتصويره كأنه شخص يريد أن ينتقم بشدة من الناس فيقتل الأطفال والنساء ويهدم البيوت»، وكذلك علّق حساب يحمل اسم (الكنيسة الأرثوذكسية من القدس) على هذه التفسيرات بالقول: «من الأفضل في هذه المحن أن يفعل الإنسان ثلاثة أشياء فقط: أن يصمت، وأن يصلي، وأن يساعد». أما نظريات المؤامرة التي تناولت الحدث هذه المرة فقد تنوعت لكنها لم تخرج عن إطار الطروحات السابقة إلا قليلا، وقد ابتدأ الأمر مع تغريدة لشخص وصفته بعض المواقع بأنه عالم هولندي أو خبير زلازل اسمه فرانك هوجربيتس توقع حدوث الزلزال قبل أيام من وقوعه. وحقيقة الأمر أن هذا الرجل ليس عالما، ولا خبيرا جيولوجيا أو خبير زلازل، هو متنبئ أو قارئ أبراج، وتصريحه لم يحدد فيه وقتا معينا لحدوث الزلزال، والمنطقة التي حددها هي منطقة نشاط زلزالي معروفة، نتيجة تحركات الطبقات التكتونية فيها. إذ قال هوجربيتس في تغريدته: «قلبي يخاطب كل من تضرر من الزلزال الكبير في وسط تركيا. كما ذكرت سابقا، سيحدث هذا عاجلاً أم آجلاً في هذه المنطقة، على غرار عامي 115 و526. هذه الزلازل تسبقها دائما هندسة كوكبية حرجة، كما حدث في 4-5 فبراير/شباط». أي إنه ربط الأمر مع وجود الكواكب في مساراتها بوضع وصفه بالحرج، وإن هذا الأمر يساعد على حدوث الكوارث ومنها الزلازل، وكما هو معروف أن التنجيم من العلوم الزائفة، ولم يحظ بأي اعتراف علمي أو أكاديمي. ومن نظريات المؤامرة القديمة المتجددة هي نظرية استخدام الأمريكيين لسلاح جيولوجي لإحداث الزلازل والتغيرات البيئية، ومن المنشورات التي تم ترويجها بشكل كبير في وسائل التواصل، منشور تحت عنوان (ألغاز زلزال تركيا وحرب العالم الخفي) لشخصية وهمية هي الدكتور جوزيف وجدي، يقول فيه: «المؤكد أن مشروع هارب (HARP) الأمريكي أو مشروع الشفق النشيط عالي التردد (ألاسكا 1997) لصناعة كوارث مناخية وطبيعية، هو أمر مؤكد، وهو مشروع سري واقعي استخباراتي عسكري بامتياز، وصراع علمي عسكري سري (أمريكي روسي صيني)». ويضيف أكذوبة تدعم نظرية المؤامرة أعلاه بقوله: «كان هناك لغز آخر هو السفينة الأمريكية التي بلغ طولها 150 مترا والتي عبرت بحر البوسفور قبل الزلزال، والمحسوبة على سلاح الهارب ومشروع تسلا السري الأمريكي، وكان مرورها قبيل التفجير»، وطبعا هذا الأمر كله عبارة عن أوهام روجتها جهات تدعم نظريات المؤامرة أعلاه.

البعض عزا الزلزال الأخير لأنشطة بشرية متنوعة، أدت لحدوث الكارثة، سواء كان ذلك متعمدا أو غير متعمد، مثل إجراء تفجير نووي أمريكي تحت الأرض في قاعدة إنجرليك القريبة من موقع الزلزال، أو حدوث انفجار تحت الأرض في محطة أكويو النووية لإنتاج الطاقة الكهربائية، وهي محطة روسية تم إنشاؤها في تركيا، أو حدوث انفجار نووي في غواصة روسية تحت سطح البحر، وكل هذه الطروحات متهافتة إلى درجة مضحكة، لأن الكشف عن مثل هذه الانفجارات بات بسيطا جدا ويعتمد على الكشف عن النشاط الإشعاعي المصاحب لحدوث مثل هذه الكوارث، كما أن أعمق انفجار نووي تحت سطح الأرض لا يمكن أن يتجاوز بضع كيلومترات، بينما كان مركز الزلزال الأخير في تركيا على عمق 18 كيلومترا.

تبقى النظرية الأخيرة التي تمتعت ببعض الوجاهة أو المعقولية العلمية، لكنها في النهاية تم تفنيدها أيضا من المختصين، إذ تبنى بعض الباحثين آراء نسبت لجيولوجيين مفادها، أن كثرة السدود التي أقامتها تركيا، والتي تجاوت 500 سد ثم مشروع (جاب GAP) جنوب تركيا على نهري دجلة والفرات، أدى إلى إنشاء بحيرات عملاقة خلف هذه السدود، وهذا الأمر أحدث تحميل أوزان هائلة على القشرة الأرضية، وأدى إلى تسريب مياه جوفية إلى داخل الأرض، والنتيجة حدث الزلزال، وستحدث زلزال مقبلة، وأشار من كتب هذا الرأي إلى مسارعة الأتراك لتفريغ خزانات السدود الواقعة على خط الزلزال، خوفا من حدوث فيضان كارثي سيغمر جنوب تركيا ويمتد إلى سوريا والعراق. الرد العلمي جاء من أحد الأكاديميين الذين ردوا على هذا الكلام، وأحب أن أنقل هنا رأي الدكتور واثق غازي عبدالنبي المختص بعلم الزلازل، والأستاذ في قسم الجيولوجيا في كلية العلوم – جامعة البصرة، عندما سئل عن تأثير السدود التركية وعلاقتها بالزلازل، فقال موضحا ما حدث، «الهزة الأرضية التي حدثت وبمقدار 7.8 على مقياس العزم الزلزالي (وليس مقياس ريختر)، هي الهزة الأرضية الرئيسية التي تحررت خلالها أغلب الطاقة المخزونة في الصخور على جانبي صدع الأناضول. وبالتالي، فإن ما يتبعها من هزات أرضية والتي تسمى بالتوابع (وليس الارتدادية) يجب أن تكون ذات مقدار أقل». وأضاف مجيبا عن تأثير السدود بقوله: «ليس للنشاط البشري أي دور في توليد مثل هذه الهزات الأرضية. لا يمكن لأي نشاط بشري مثل بناء السدود، استخراج النفط أو الغاز، حقن الماء في الآبار، استخراج المياه الجوفية، حفر المناجم أن يكون قادراً على توليد هزة أرضية بمقدار يزيد عن ستة، والهزات التي حدثت تجاوزت هذا الرقم كثيراً». كما أجاب الدكتور واثق غازي عبد النبي على الإشاعات التي نشرت الرعب بين الناس بشأن حدوث فيضان سيغرق المنطقة بقوله: «السدود وجميع المنشآت الكبيرة تصمم وفقاً لمعامل البناء الزلزالي لمنطقة البناء. هذا المعامل يعتمد على ما يسمى بخريطة المخاطر الزلزالية، وهي بتبسيط شديد خريطة تبين معدل اهتزاز الأرض الذي يحدث عند أعلى هزة أرضية متوقعة في هذه المنطقة. تركيا تملك خريطة مخاطر زلزالية ممتازة ومعامل بناء زلزالي يراعي حدوث هزات أرضية بمقدار يفوق ما تم تخمينه، وذلك لضمان جودة البناء. طبعاً يراعى في معامل البناء الزلزالي الجمع بين سلامة المنشأ وكلفة إنشائه. بسبب ذلك، فإن السدود في تركيا تحظى بدرجة أمان عالية وهي تحت المراقبة الدورية». في النهاية لا يسعنى إلا الدعاء بالرحمة لمن رحلوا، وأن نمد يد العون لمن أصابتهم الكارثة إذا استطعنا إلى ذلك سبيلا.

المصدر: القدس العربي

قد يعجبك ايضا