سوريا في مسيرة أحمد جبريل

حسام جزماتي

تفيد مذكرات مؤسس وقائد «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة» في التأريخ الفلسطيني أساساً. غير أن ملامح من تكوينه وسيرته تنفع لتفسير موقفه الحاسم في الانحياز للنظام السوري بعد الثورة، خاصة على الساحة الفلسطينية التي مارس فيها فصيله قمعاً داخل البيت. صدرت المذكرات في دمشق في تموز الماضي، بعد عام من وفاته فيها، بعنوان «أحمد جبريل: ذاكرة الثورة الفلسطينية المعاصرة».

من الكتاب نعرف أن جبريل ليس فلسطينياً سورياً بالمعنى القانوني، بل سورياً من أصل فلسطيني. فقد غادر قريته في ضواحي مدينة يافا قبيل «النكبة»، صبياً بصحبة شقيقاته ووالدته التي استخدمت نفوذ خالها صبري العسلي، وزير الداخلية حينذاك، لتحصل الأسرة على الجنسية السورية وتقيم في مدينة القنيطرة التي كان جده لأمه، محمد علي بشحالوق، الذي يتحدر من أصل شركسي، أبرز أطبائها.

لم تمرّ السنوات العشر التي عاشها أحمد في بلده الأم دون أن تترك في نفسه أثراً بالغاً رغم أنه لم يتعرض لتجربة التهجير الشهيرة. فقد تفتح وعيه على الصراع الفلسطيني الصهيوني الذي كان يتجلى في اشتباكات وكمائن بين المستوطنين اليهود الوافدين وبين سكان القرى العربية ومنهم والده وأقاربه الذين حملوا السلاح وتصاعدت المواجهات.

بعد أن أنهى جبريل المرحلة الإعدادية اضطر للمتابعة في دمشق، في مدرسة داخلية مسيحية في القصاع بداية، ثم في الثانوية الأهلية بسوق ساروجة. وفي أثناء ذلك انتمى لمدة، إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، بعد أن قرأ لزعيمه أنطون سعادة موقفاً صارماً عن فلسطين، فقد «كان لديه كتاب عن اليهود مغاير تماماً لقصة الإسرائيليين والصهاينة».

حين حاز الشهادة الثانوية رفض خيار العائلة بدراسة الطب ووراثة عيادة جده، أو دراسة الهندسة، فقد كان يبحث عن طريق سريع ومباشر للقتال في فلسطين. ولذلك كان على وشك التطوع في الكلية العسكرية قبل أن يخشى من تدخل والدته لدى خالها، الذي كان رئيساً للوزراء وقتئذ، لإعاقة قبوله، خاصة أنه وحيد ومعفى من خدمة العلم. فقرر أن يسافر إلى القاهرة حيث تطوع في الكلية الحربية، وتابع الاختصاص في مدرسة الهندسة العسكرية، ليعود إلى القنيطرة ضابطاً في جيش الوحدة التي كانت قائمة حينذاك، ثم في الجيش السوري.

في أثناء دراسته، وفي الجو الأوسع، تعرف جبريل إلى طلاب جزائريين يوم كانت الثورة ضد الاستعمار الفرنسي هناك مهوى أفئدة العرب. ثم قرأ عن الثورة الكوبية وأعجب بشخصية غيفارا. وخلال خدمته بدأ ببناء تنظيم يهدف إلى تنفيذ عمليات داخل الأراضي الفلسطينية. وفي سبيل ذلك تجاوز، بضمير مرتاح، أنظمة الجيش. فأحضر مدنيين ليتدربوا في القطعة، واختلس منها أسلحة وذخائر، مستفيداً من تعاطف الضباط السوريين مع الحالة الفلسطينية حين كُشفت مخالفاته. لكن الأمر اختلف حين وصل حزب البعث إلى السلطة بسيطرة عسكرية، فطالته عصا التسريح النشطة في خريف 1963، وهو برتبة ملازم أول، ليتحرر من الانضباط المسلكي ويتفرغ لبناء تنظيمه في مرحلة الستينات التي شهدت انطلاق العمل الفدائي. وفي نهايتها سيجد أحمد جبريل نفسه زعيماً أوحد لفصيله الخاص.

منذ أن أصبح الموضوع الفلسطيني في أيدي النظام العربي، الذي قرر تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر قمة عام 1964؛ صار قادة الفصائل الناشئة والنامية زواراً دائمين لهذا الرئيس العربي أو ذاك بحثاً عن الدعم. وبالنسبة لجبريل، الذي كان يتعامل بيسر مع الضباط، أبناء دورة أو زملاء خدمة أو رؤساء أو مرؤوسين سابقين أو أندادهم؛ كان التعاون مع القيادات العسكرية الحاكمة في الدول العربية المؤثرة أمراً بديهياً، متنقلاً بين مصر وسوريا والعراق، وصولاً إلى القذافي إثر انقلابه في ليبيا ودعمه للجبهة الشعبية – القيادة العامة. وفي هذه الدول لم يكن جبريل مشغولاً إلا بقضيته الفلسطينية، ولا يلتقي إلا بالقيادات العسكرية أو الأمنية. وبشكل خاص توثقت علاقته مع حافظ الأسد وأخذ فصيله يُحسب على الذراع السوري ضمن الساحة الفلسطينية متزايدة الانشقاقات، من أيلول الأسود الأردني إلى الحرب الأهلية اللبنانية.

منذ أن اصطدم نظام حافظ الأسد بالإسلاميين في الثمانينيات تبنى جبريل رواية السلطة عن مخطط ينفذه الإخوان المسلمون لاستهداف سوريا وإضعاف الأسد بسبب مواقفه القومية. لكنه لا يذكر تدخلاً عسكرياً لفصيله في الأحداث، إذ كانت محدودة بمحافظات أمكن قمعها بتآزر المخابرات والجيش في انتهاكات دموية. أما حين قامت ثورة 2011 فقد وجدت القيادة العامة نفسها في مواجهة محتجين فلسطينيين وتولت التصدي لهم نيابة عن النظام.

يبدأ جبريل هذا الفصل من حكايته باجتماع ضمه مع قادة حركة حماس والجهاد الإسلامي على مائدة محمد بديع، المرشد العام للإخوان المسلمين. يقول أبو جهاد إنه نبّه الحاضرين إلى أن النظام في سوريا «مثالي ورشيد ويقف ضد تصفية القضية الفلسطينية»، داعياً المرشد إلى إطلاق سراح حماس وتركها لظروفها في دمشق، وهو ما يرى أنه لم يحصل حين ضغطت الجماعة الأم على فرعها الفلسطيني لمغادرة العاصمة السورية. أما هو فيقول إن خياره السياسي كان ثابتاً على طول الخط، واصفاً الانتقال إلى استخدام السلاح ضد المحتجين في حزيران 2011، من مقر الجبهة الشعبية – القيادة العامة المركزي في مجمع الخالصة بمخيم اليرموك. ثم إنشاء لجان شعبية مسلحة للتصدي لحالة «الفوضى» التي دبت في المخيم بعد أن بدأ يشهد مظاهرات قام بها «أغراب» لم يلبثوا أن حشدوا قوات كبيرة جداً من حوران والغوطة، ولم تستطع اللجان التصدي لهذا «الزحف الإرهابي الدموي الهائل» وهُزمت.

يقول جبريل إن تنظيمه وضع كل ثقله لمنع «التآمر» لتدمير سوريا ككيان ونظام، فقاتل في الغوطة وحماة و«الجبهة الشرقية والغربية»، مستفيداً من علاقاته مع النظام وإيران وحزب الله. موضحاً أن القيادة العامة قدّمت 400 «شهيد» وأكثر من ألف جريح في «الدفاع» عن سوريا ضد «أماني بن غوريون» في تقسيمها. مسترجعاً بفخر ما قاله يوماً لخالد مشعل، القيادي البارز في حماس: «سأقاتل التكفيريين والقتلة في الشوارع»!

لا يذكر جبريل أي قذيفة أطلقها النظام على مخيم اليرموك، مثلاً، ولا أي قصف جوي على عاصمة الشتات التي دُمرت وأخليت من سكانها. ويُنهي كتابه بما يشبه وصية ختمها بسؤال مستنكِر: «بحق من أخطأت؟»، دون أن يجد جواباً.

المصدر: تلفزيون سوريا

قد يعجبك ايضا