سياسات العنف ومفهوم الدولة

فهد الشقيران

يُشكل تحدي الإرهاب والعنف أكبر التحديات بالشرق الأوسط؛ المنطقة التي يصفها جاريد كوشنر بالملتهبة. ومع الحروب تنتعش أنفاس التنظيمات، ويسيل لعابها نحو مزيد من النفوذ في مناطق الصراع، إنها مشكلة متجددة وراسخة حركياً وثقافياً، خصوصاً مع اشتداد الحروب، وازدياد شد العصب الآيديولوجي بين الناس.

جزء أساسي أركز عليه باستمرار أن الإرهاب لديه جدليته مع الدولة، حين ترتخي أي دولة يعني بالنسبة والتناسب مزيداً من رياح الإرهاب الكاسحة. تنبه لذلك السياسي العريق هنري كيسنجر في كتابه: «النظام العالمي»، حيث خلص إلى قوله: «في الشرق الأوسط، يتمادى الجهاديون من سنّة وشيعة في تمزيق المجتمعات وتفكيك الدول؛ بحثاً عن رؤى ثورة عالمية قائمة على رؤية أصولية لدينهم. الدولة نفسها – جنباً إلى جنب مع المنظومة الإقليمية المستندة إليها – باتت في خطر جراء التعرض لهجوم آيديولوجيات رافضة لضوابطها بوصفها غير شرعية وميليشيات إرهابية صارت، في عدد غير قليل من البلدان، أقوى من القوات المسلحة التابعة للحكومة. وآسيا، وهي الأنجح على نحو لافت بين الأقاليم على صعيد تبني مفاهيم الدولة السيادية، ما زالت تستحضر مفاهيم نظام بديلة بنوع من الحنين الماضوي، وتزخر بحشد من المنافسات والدعاوى التاريخية من تلك النوعيات التي ابتُلي بها نظام أوروبا قبل قرن».

ثم يضيف أن «جُل البلدان ترى نفسها (صاعدة) دافعة الاختلاف نحو حافة المجابهة. بقيت الولايات المتحدة متأرجحة بين الدفاع عن النظام الوستفالي وشجب مقدمتيه المتمثلتين بتوازن القوة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية بوصفهما منافيتين للأخلاق من ناحية، أو باليتين من ناحية ثانية، وهما معاً أحياناً. تواصل أميركا تأكيد هذه الأهمية الكونية الشاملة لقيمها في بناء نظام عالمي مسالم، وتحتفظ بحق دعمها عالمياً. ومع ذلك، فبعد انسحابها من ثلاث حروب في غضون جيلين – كل منها بدأت بطموحات مثالية، وتأييد شعبي واسع، إلا أنها انتهت بجرح قومي – فإنها تجهد لتحديد العلاقة بين قوتها (ما زالت هائلة) ومبادئها».

ولا عجب فهو يعد أن جميع مراكز القوة الرئيسية تمارس عناصر من نظام وستفاليا إلى درجة معينة، غير أن أياً منها لا يرى نفسه المدافع الطبيعي عن النظام. يتعرض الجميع لتحولات داخلية ذات شأن. وهل يمكن لمناطق مأهولة بمثل هذا الحشد المتباين من الثقافات، والتواريخ، ونظريات النظام التقليدية أن تضفي المشروعية على أي نظام مشترك؟ من شأن نجاح مسعى مثل هذا أن يتطلب مقاربة قائمة على احترام تعددية الحالة الإنسانية من جهة، والبحث الإنساني المتجذر عن الحرية من جهة ثانية. وبهذا المعنى فإن النظام يجب غرسه وتعهده، ويتعذر فرضه. والأمر هكذا استثنائي في عصر متميز بالتواصل الآني والتدفق السياسي الثوري كما يقول.

تسود الدولة حين يقتنع المجتمع، أي مجتمع، بأن الأمر لا يتعلق بالوفاق التام، أو الاشتراط الفردي الهزيل، أو التطلّب الطفولي، وإنما – كما يصف ذلك توماس هوبز – حين تتم الوحدة الفعلية للجميع ضمن الشخص الذي وضعت الجموع إرادتها في إرادته، وعند القيام بذلك يصبح الجمهور موحداً في شخص إنسان واحد نسميه «دولة». لهذا وبفضل تلك السلطة التي يعطيها كل فردٍ للدولة، يمتلك الحاكم قدرة هائلة وقوة مجتمعتين فيه، بحيث يمكنه اعتماداً على الرعب، الذي يلهم القدرة والقوة، أن يخضع إرادة الجميع بغية تحقيق السلم الداخلي والتعاون في مواجهة الأعداء الخارجيين، هذا هو المفهوم الهوبزي الذي نحتاجه أكثر، ذلك أنه كتب في ظلّ الحرب الأهلية الإنجليزية في القرن السابع عشر، وهو أقرب إلى حال العرب اليوم؛ إذ تسود الذئبية وعقلية الغاب.

الخلاصة أن الفكرة الأساسية في تمتين مفهوم الدولة العتيد تتطلب الاستفادة من تجارب الأمم وشروطها وظروفها المعاشة، فالدول تشبه الناس، وتكبر معهم تبعاً لتحدياتٍ تجرفهم أو تهددهم.

المصدر: الشرق الأوسط

قد يعجبك ايضا