شكسبير وصَحبه

حينما تلتصق سمة “سياحي” بمَعلَم ما، فهي غالباً تعني نهايته. ختام راهنيته، واختتام البعض الوافر من وظيفته الأم، لإعادة افتتاحه كأثَر، كتاريخ، ولو كان مستمر الجَريان. “السياحي”، غالباً ما يقطع الصلة بالمدينة، يقصّ حبل السرة الذي ربطه ذات مرة بيومياتها وناسها، ليمسي فرجة، موضوعاً لمعاينة دخيلة، لجمهور بلا اسم ولا جسد، وذلك سواء احتَمى المُعايَن بعلبة زجاجية، أو تجلّى في الهواء الطلق صرحاً من خيالات المنشورات الموزعة مجاناً في المطارات والفنادق. “هذا للسياح”، قد يقول بازدراء، مقيمٌ في المدينة، لزائرها، والأخير سيعدّ نفسه محظوظاً بدليلٍ سياحي لشطور المكان اللاسياحية، حيث يمكنه تذوق حياة “السكان الأصليين”.

وإن كانت هذه القاعدة، فالاستثناء حاضر وصارخ، على مرمى حجر من نهر السين الباريسي، في مواجهة كاتدرائية نوتردام، وفي حضن مبنى من القرن السابع عشر. وهذه ليست سوى تفاصيل سياحية هامشية، تؤطر مكتبة “شكسبير أند كومباني” التي صنعت تاريخاً خاصاً بها وبباريس، أنزلته على المدينة من خارجها، بالإنكليزية، لكنها ما كانت لتصوغه بهياً ومقاتلاً هكذا لولا ذاك الجوهر الباريسي: الحرية التي تلوذ بأفيائها طرائد الفن والأدب والسياسة من أنحاء العالم.

مكتبة “شكسبير أند كومباني”، تبيع الكتب بالطبع، جديدة ومستعملة. لكنها أيضاً حالة ما قبل الكِتابة وما بعدها. حالة الإعداد لكتاب، بل تَخَمُّر الكاتب الذي سيصبحه، مثلاً، آلن غينزبرغ ومَن كان في مصافه. وهي حالة اختيار ما نقرأ، بعد جولة نشعر أنها بلا نهاية، في سراديب تربط غرفاً وصالات، حيث ليس من سنتمتر واحد لا يشغله كتاب، إلا ما تُرك للإضاءة والتهوئة والملصقات. المكان يعجّ بالبشر، وسيّان إن كان يستضيف كتّاباً وشعراء ممّن تتصدر أسماؤهم المطبوعات الثقافية الأرقى في العالم، لمحاورة قرائهم والحديث عن أعمالهم وتوقيعها. الزحمة هي نفسها، كل يوم، كل وقت من النهار، أمام المكتبة وداخلها. الفارق الوحيد لدى استضافة مؤلفين، كما خلال استضافة الروائية التركية إليف شافاق أمس، هو مكبّر الصوت في الخارج، والمقاعد الصغيرة التي تصطف على الرصيف لاستيعاب عشرات المهتمين ممن لم يتسع لهم المكان في الداخل، والذين، مع ذلك، يبقى العديد منهم واقفاً يصغي لساعة أو أكثر، غير مهتم بشمس أو مطر.

هنا جنة الكتب بالانكليزية في باريس، والألسنة تنقلب من تلقائها إلى لغة المكان. فقاعة رحبة وشفافة تجمع المتحدثين بالانكليزية بلكنات أميركية وبريطانية واسبانية وهندية وصينية، وفي قلب المدينة التي ما زال الكثير من أبنائها، وحتى الشباب، يجيبون على سؤال معرفتهم بالانكليزية: “A little”. ومع ذلك، فهذا الحيز الأنغلوفوني، ليس مجرد زاوية تحت عباءة المدينة، بل عطر يضمّخ جِلدها، ليعود ويفوح من تلك الزاوية قبالة “نوتردام” معجوناً بخيمياء الفرانكوفونية الباريسية تحديداً، كخلطة للعقل المتشائم والإرادة المتفائلة إن جازت الاستعارة من غرامشي.

هنا تستطيع أن تجلس وتقرأ لساعات، ثم تعيد الكتاب مكانه وتغادر. وهنا، أجرى الروائي الأميركي ويليام باروز بحوثه في قسم الكتب الطبية فيما كان يعدّ لروايته Naked Lunch-1959.

وهنا أيضاً، أقام نحو 30 ألف كاتب(ة)، منذ تأسيس المكتبة العام 1951، فباتوا لياليهم (الأرجح مع براغيث وحشرات كُتُبية أخرى) في أسرّة حُشرت لأجلهم في دهاليز هذا البيت العتيق، وبين أدغال الكتب التي تسلّقت كل الجدران وارتفعت طوابق وسلالم. فحظي الأدباء الضيوف بالمأكل والمشرب والدفء، في مقابل ساعتين من المساعدة في أعمال المكتبة يومياً، و”وعد شرف” بإنفاق جزء من أوقات فراغهم في القراءة والكتابة. فليس عبثاً عُلّقت تلك اللافتة على باب إحدى غرف القراءة: “لا تكن قليل الضيافة إزاء الغرباء، فلعلهم ملائكة متخفّين”.

هنا كان محور أدبي في باريس البوهيمية، وكان من “زبائنه” الدائمين: آلن غينزبرغ، هنري ميلر، ريتشارد رايت، لانغستون هيوز، بل وفرانك سيناترا الذي تعرف قلة فقط القارئ النهمَ الذي كانه.. وصولاً اليوم إلى زادي سميث وبول أوستر، والممثل/الكاتب إيثان هوك الذي بات لياليه الأولى هنا عندما زار باريس وحده للمرة الأولى وكان عمره 16 عاماً، ومذاك لم ينقطع عن “شكسبير وصحبه”. وربما لا يسع السامع أن يلوم أدلاء سياحيين إذ يقولون لمجموعات صغيرة تتحلق حولهم داخل المكتبة، أن جيمس جويس مدفون تحتهم في القبو. ولئن كان الصحيح أن قبر جويس في زيورخ، فـ”المعلومة” تبدو، من فرط سِحر المكان وجاذبية سيرته، طبيعية للغاية. ومثلها قصة صاحب سلسلة مطاعم الكباب الذي دخل المكتبة، وجال فيها ثم سأل: “للبيع؟” وجاءته “نو” فرنسية قاطعة.

افتتح الأميركي جورج ويتمان مكتبته التي سمّاها في البداية “لو ميسترال”، ليمسي تلك الشخصية الملتحمة بمشروعها إلى حد تحولها موضوعاً لذاتها، واستحق الفيلم الوثائقي الذي صُنع عنه: Portrait of A Bookstore As An Old Man (بورتريه لمكتبة في هيئة رجل عجوز)، ولتستحق مكتبته أيضاً، ظهورات عديدة في السينما والتلفزيون كنقطة باريسية مركزية ودالّة، كحضورها في فيلم Before Sunset-2004، وفيلم Julie & Julia-2009، وفيلم وودي آلن Midnight in Paris-2011.

وليس أدلّ للتعرف على ويتمان، مما قاله عنه في الوثائقي، الكاتب كريستوفر كوك غيلمور، والذي أقام مراراً في المكتبة، إلى حين وفاته العام 2004. فلقاؤه الأول بويتمان كان في إحدى ليالي تظاهرات 1968 الطلابية في باريس، بينما كان يبحث عن مخبأ من شرطة مكافحة الشغب: “كنتُ هارباً من الموت، كل المحال والأبواب مغلقة، وكان أملي أن أصل إلى نهر السين لأقفز فيه.. ثم رأيتُ أضواء في تلك المكتبة القديمة، ورجلاً عجوزاً خلف مكتب، كان وحده. ركضت عبر الباب. كنت أرتدي خوذة الفوتبول الأميركي ووجهي مغطى بشال. نظرت إليه وقلت: CRS! (شرطة مكافحة الشغب)، فصاح: إصعد الدرج! أطفأ الأنوار وأوصد الباب، وركضنا معاً على الدرج. رأينا رجال الشرطة في الخارج يصرخون ويرمون الحجارة. فأمسك العجوز ذراعي وقال: أليست هذه أعظم لحظة في حياتك؟ وكان هذا لقائي الأول بجورج ويتمان”… وكان ذلك بعد أربعة أعوام على تغيير اسم المكتبة إلى “شكسبير أند كومباني” تكريماً لذكرى الأميركية سيلفيا بيتش التي توفيت قبلها بعامين، واحتفاء بعيد ميلاد شكسبير الـ400.

كانت بيتش قد أسست مكتبة بالاسم نفسه، في شارع أوديون بباريس، وذاع صيتها في عشرينيات وثلاثينات القرن العشرين باعتبارها ملتقى من كانوا آنذاك جيل المرحلة وكتّاب الحقبة: ارنست همنغواي، ف.سكوت فيتزجيرالد، إيزرا باوند، وجيمس جويس الذي أخذت بيتش على عاتقها نشر كتابه المثير للجدل Ulysses بالنسخة الكاملة الأولى، بعدما نفته السلطات والبريطانية والأميركية ككتاب “فاضح”. أغلقت بيتش مكتبتها خلال الاحتلال النازي لباريس، ولم تُعِد فتحها أبداً. لكن مواطنها، ويتمان، التقط الشعلة، ولو بعد حين، وأعاد إحياء الاسم فيما كان “جيل البِيت” (Beat Generation) يشق طريقه إلى الضفة اليسرى من السين. وتوالت الأجيال، والكتب، بل والمجلات والمطبوعات الأدبية التي كانت فِرق تحريرها تتخذ من غرف “شكسبير اند كومباني” مقرات لها، لا سيما مجلة Merlin التي ينسب اليها الفضل في اكتشاف سامويل بيكيت كونها أول من نشر له باللغة الإنكليزية.

توفي ويتمان العام 2011، عن 98 عاماً، ومنذ ذلك الحين والمكتبة تديرها وتحدّثها ابنته الوحيدة سيلفيا ويتمان (كما سيلفيا بيتش!)، وأول ما أدخلته عليها جهاز الهاتف الذي لطالما مانَعه والدها. فعلى عكس الكثير من أبناء جيله البوهيميين والشيوعيين المثاليين، ذهب ويتمان في مثاليته إلى الأقصى. فكان يطبخ لنفسه وضيوفه من بقايا المطاعم وأسواق الأحد، ويقصّ شعره بنفسه (بالأحرى يحرق أطرافه مستخدماً شمعة). والجميع يحفظ تلك الجاكيت التي ارتداها لعقود وثمة مَن يُقسم بأنها لم تُغسل أبداً. وما زال “بئر الأمنيات” في إحدى غرف القراءة، على غرار نوافير الساحات العامة في إيطاليا حيث تتحقق الأماني برمي قطعة نقدية، وهنا هو تجويفة عميقة تعلوها لافتة “أطعموا الكتّاب الجائعين”… لقد امتصّت المكتبة صفتها السياحية وأمنيات النوافير، وأعادت انتاجها على طرازها ومنوالها، وما زال الزوارُ قُرّاءَ، والكتّاب ضيوفاً ونُزلاء المنامات، ولا أحد يشبع من “شكسبير وصحبه”.

المدن ١١ تموز/ يوليو ٢٠١٩

 

قد يعجبك ايضا