في مسار التحوّل السعودي نحو النظام السوري

حسين عبد العزيز

صرّح رئيس هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية، رياض حجاب، في 3 أغسطس/ آب 2017، بعيد اجتماع جرى بين الهيئة ووزير الخارجية السعودية عادل الجبير، أن الأخير طالب الهيئة بضرورة الخروج برؤية جديدة للأزمة السورية، تتماشى مع الوقائع على الأرض والوضع الدولي الجديد. وكان ذلك الاجتماع ثم التصريح الذي أعقبه، مؤشّراً على بداية تحوّل في الموقف السياسي السعودي تجاه الملف السوري عموماً، ومستقبل بشار الأسد خصوصاً، بعدما كانت الرياض تصرّ على أن أي حلٍّ سياسي للأزمة السورية يجب أن يتم باستبعاد الأسد حتى من المرحلة الانتقالية.

لم يكن التحول السعودي الذي عبّر عنه حجاب وليد اللحظة آنذاك، بقدر ما كان حصيلة مراجعات للملف السوري بدأت منذ نهاية عام 2015. ومرّ الموقف السعودي من الثورة السورية بثلاث مراحل رئيسية: بدأت الأولى مع انطلاق الثورة، وأخذت خطاً متصاعداً إلى الدعم الكامل والقوي للثورة بعد أشهر قليلة من اندلاعها، فكانت السعودية إلى جانب قطر وتركيا أحد الحوامل الإقليمية الرئيسية الداعمة للثورة السورية على الصعيدين السياسي والعسكري والاقتصادي. ووصل الدعم السياسي السعودي إلى ذروته حين ضغطت، بكل قواها مع دول أخرى، لتغيير الصيغة السياسية التي خرج بها مؤتمر “فيينا 1” في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2015 “تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية على أن يعقب تشكيلها وضع دستور جديد وإجراء انتخابات”.

وتحت ضغط دولي، يضم السعودية، استبدلت هذه الصيغة بصيغة عامة في مؤتمر “فيينا 2” في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام ذاته “… تأكيد دعم وقف إطلاق النار، وعملية بقيادة سورية، من شأنها إقامة حكم شامل ذي مصداقية وغير طائفي، في غضون ستة أشهر، ووضع جدول زمني وعملي لإعداد مسوّدة دستور جديد، على أن تجري انتخابات عادلة وشاملة بحسب الدستور الجديد خلال 18 شهراً”. ورفضت الرياض أية صيغة لاعتبار الأسد جزءاً من الحل السياسي، وضغطت بقوة واستمرار لجعل مخرجات “جنيف 1” مندرجة في أي قرار دولي أو وثيقة دولية، في وقت واصلت دعمها العسكري فصائل معارضة على الأرض.

جاءت المرحلة الثانية مع التدخل العسكري الروسي في سورية، إما بموافقة أميركية مضمرة، أو بغضّ نظر أميركي، وكان يعني هذا التدخل، ليس ضرب المعارضة المسلحة فحسب، بل أيضاً إخراج الداعمين الإقليميين للمعارضة من المعادلة، وهذا ما حدث فعلياً، حين جرى التفاهم على إنشاء أربع مناطق آمنة في سورية، من أجل وضع مسار زمني لحصر المعارضة المسلحة في بقعة جغرافية واحدة وتحت هيمنة دولة إقليمية واحدة هي تركيا بحكم الجغرافيا. وهكذا، بدأت السعودية وقطر تخرجان تدريجياً من معادلة الصراع المسلح في سورية، لتبقى أربع دول فقط (الولايات المتحدة، روسيا، تركيا، إيران).

وكان التدخل العسكري الروسي مؤشراً على متغيّرات كبرى في الملف السوري، ظهرت على شكل صفقة عسكرية، تُوقف تركيا بموجها دعمها المعارضة المسلحة في حلب، مقابل السماح لها بدخول الأراضي السورية والسيطرة على مناطق من ريف حلب الشمالي (درع الفرات). وكان التوسّع التركي في سورية يقابله تراجع في حضور السعودية التي بدأت تدخل مرحلة اضطراب سياسي في محيطها الجغرافي: فشل العملية العسكرية في اليمن وارتفاع أعداد القتلى المدنيين، قطيعة سياسية مع قطر، شبه قطيعة مع تركيا، حرب باردة مع إيران، ضعف سياسي واضح في لبنان، غياب شبه كلي في الساحة العراقية. إضافة إلى ذلك، شكل وصول دونالد ترامب إلى سدة البيت الأبيض تحوّلاً في الموقف الأميركي الذي بدأ يركّز على محاربة الإرهاب، مع ما يتطلبه ذلك من إعادة ترتيب العلاقات الأميركية الدولية مع حلفائها لهذا الهدف. واستطاعت الإمارات ومصر إقناع السعودية بالانقلاب على تحالفها السابق المضادّ للنظام السوري (قطر، تركيا، السعودية)، والتركيز على محاربة الإرهاب، وكان من نتائج ذلك حصول أول تقارب بين السعودية والأكراد في الشمال السوري.

دفعت كل هذه المعطيات الرياض إلى إجراء تعديل في مقاربتها السياسية لسورية، مع إدراكها أن إسقاط النظام عسكرياً أو سياسياً أصبح من المستحيل، فلجأت إلى مقاربة أخرى مفادها التخفيف من حدّة الخطاب السياسي للمعارضة السورية، على أمل أن يؤدّي ذلك إلى انطلاق مسار للحل السياسي. ومن نتائج هذه المقاربة الجديدة الضغط السعودي على المعارضة السورية لإدخال منصتي القاهرة وموسكو في هيئة التفاوض، وقد نجحت في ذلك بفعل الضغوط الدولية (الأميركية، الأوروبية) المؤيدة.

بدأت المرحلة الثالثة نهاية 2018، وهو العام الذي انتهت فيه معركة الجنوب السوري (آخر المعارك العسكرية الكبرى)، وأصبحت المعارضة المسلحة، بموجب ذلك، محصورة في الشمال الغربي من سورية. ونجم عن انتهاء الأعمال العسكرية في سورية تبلور مقاربة جديدة لا تكتفي بإيجاد حل سياسي يشمل النظام والمعارضة، بل ضرورة التفاوض مع النظام مباشرة من أجل تخفيف القبضة الإيرانية في سورية، فأعلنت الإمارات نهاية 2018 بدء العمل في سفارتها في دمشق، وما كان هذا التطور ليحدث من دون موافقة سعودية ضمنية.

أخذت هذه المقاربة زخماً كبيراً مع وصول بايدن إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، فبدأت الرياض تعيد ترتيب علاقاتها الإقليمية، ثم جاء انطلاق المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية ليجعل من المقاربة الجديدة حيال النظام السوري مسألة في غاية الضرورة. وفي عام 2021، عيّنت البحرين، بمباركة سعودية، أول سفير لها في دمشق منذ خفضت مستوى العلاقات قبل حوالى عشر سنوات مع بدء الثورة السورية. وفي الأثناء، بدأت لقاءات جانبية بين مسؤولين سعوديين ومسؤولين لدى النظام، منها زيارة وزير السياحة السوري، محمد رضوان مارتيني، المملكة في مايو/ أيار 2021، في أول زيارة من نوعها منذ قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ما دفع المستشارة الخاصة للأسد، بثينة شعبان، إلى القول في اليوم التالي لهذه الزيارة: “هناك جهود تُبذل لعلاقات أفضل بين دمشق والرياض، وقد نشهد في الأيام القادمة نتائج بهذا الموضوع”. وفي الشهر ذاته، كشفت صحيفة الغارديان البريطانية أن رئيس المخابرات السعودية، اللواء خالد حميدان، التقى رئيس مكتب الأمن القومي علي مملوك في دمشق، وناقشا تطبيع العلاقات.

أخذ مسار التطبيع السعودي الناعم مع النظام السوري انعطافة جديدة مع اندلاع الحرب الأوكرانية ونشوء اصطفافات سياسية ـ اقتصادية جديدة، كانت دول الخليج العربي (السعودية، الإمارات، قطر) ركناً أساسياً فيه، عندما قدّمت استراتيجية سياسية ـ اقتصادية تجاه روسيا يخالف السائد منذ عقود. ومع وقوع الزلزال المدمّر في جنوب تركيا وشمال سورية في 6 فبراير/ شباط الماضي، حدث أول تماسّ رسمي بين الرياض ودمشق، عبر إرسال الأولى مساعدات إنسانية مباشرة إلى النظام السوري، ثم أعقبه تصريح رسمي لوزير الخارجية فيصل بن فرحان، قال فيه “إن إجماعاً بدأ يتشكل في العالم العربي على أنه لا جدوى من عزل سورية، وأن الحوار مع دمشق مطلوبٌ في وقت ما حتى تتسنّى على الأقل معالجة المسائل الإنسانية، بما في ذلك عودة اللاجئين ومعالجة مسألة سوء الأوضاع الإنسانية والدفع بمسار الحل السياسي”. ثم كان للاتفاق السعودي ـ الإيراني في بكين أكبر الأثر في نقل العلاقات بين السعودية والنظام السوري من المستوى الخجول إلى المستوى العلني، لتعلن الرياض في الـ23 من الشهر الماضي (مارس/ آذار) أنها تجري محادثات مع النظام السوري لاستئناف تقديم الخدمات القنصلية بين الطرفين، لتسدل بذلك ستارة قطيعة دامت 12 عاماً.

توصل صنّاع القرار في الرياض، بعد هذه السنوات الطويلة من الحروب والتوترات السياسية في المنطقة، إلى قناعة بأن حل الملفات الشائكة لن يحصل إلا بالطرق السياسية، وخصوصاً الملفين اليمني والسوري، اللذين أثقلا كاهل المملكة. وهي تعتقد أن تقوية العلاقة مع روسيا من جهة، وإعادة ترتيب العلاقة مع إيران من جهة أخرى، كفيلان بحلحلة الملفين، مع ما في ذلك من تقديم الرياض تنازلاتٍ مؤلمة في اليمن ومن ثم في سورية. ومع أن الثورة السورية أصبحت بكل حمولاتها الثقيلة ملفاً خاسراً من الناحية الاستراتيجية، فليس معروفاً بعد ما هو المقابل الذي ستحصل عليه السعودية من النظام السوري.

المصدر: العربي الجديد

قد يعجبك ايضا