مات فايز النوري.. عاش حافظ فايز النوري

جسر – صحافة

في صيف عام 1979، عرف السوريون من خلال الإعلام المحلي بوجود “محكمة أمن الدولة العليا”، ورئيسها الذي ظهر آنذاك فايز النوري ليباشر سمعته الدموية بالحكم بالإعدام على 17 متهماً. المحكمة كانت قد أسست بقرار للقيادة القطرية لحزب البعث بتاريخ 25 شباط 1966، إلا أن صيتها الإرهابي لن يكون معروفاً على نطاق واسع قبل ظهور النوري والإعلان عنها بنوع من التهديد. خلال 13 سنة خلت من تأسيسها، لا يعرف السوريون مَن الذين تناوبوا على رئاستها، لأنها لم تكن قد استُخدمت على نطاق واسع بعد.

بسبب المواجهة آنذاك مع الإخوان المسلمين، ظهر فايز النوري إلى الواجهة، ليبقى حتى قرار إلغاء المحكمة مع رفع حالة الطوارئ في نيسان 2011. كان قرار إلغاء المحكمة بمثابة قرار بإحالته على التقاعد، ولا يُعرف ما إذا كان أحس بغصّة لأنه لم يُكلّف برئاسة محكمة قضايا الإرهاب التي سيعلن عن تأسيسها في تموز من العام اللاحق، لترث بالاسم المستحدث التنكيلَ بالمعارضين باسم القانون.

صار معروفاً أن فايز النوري تسلق سلّم المناصب كبعثي انتهازي، وكان قد استطاع أولاً التقرب من رفعت الأسد الذي كان في أيام سطوته، وفي تلك الأثناء “في عام 1975” لم يفته أن يطلق على ابنه الخامس من بين أبنائه الذكور التسعة اسم حافظ تيمناً بالشقيق الأكبر لولي نعمته المباشر. في تبريره لأحكام الإعدام والسجن على الألوف من المعارضين، يُنقل عن النوري قوله أنها كانت دفاعاً عن مبادئ البعث. ولا يُستبعد كونه قد بدأ حياته مؤمناً بالفكر القومي، وأن يكون قد سمّى ابنه البكر باسم خالد تيمناً بالابن البكر لجمال عبدالناصر، فقد كان الانتقال من عبدالناصر إلى حافظ أو رفعت الأسد يسيراً جداً في سوريا.

أيضاً في تلك الأثناء حصل، خلال تدرجه في المناصب الحزبية، على شهادة ليسانس في الحقوق، ليُعرف بصفته قاضياً لدى تعيينه رئيساً للمحكمة، مع أن قرار إنشائها لا يفرض ذهاب رئاستها إلى قاض، بل يمكن إسناد رئاستها إلى عسكري من دون تحديد رتبته. عن طريقة تعاطيه الهزلية مع القانون يحدثنا صديق “معتقل سابق” كيف اعترض معتقل على الحكم الذي يطالب به الادعاء “الشكلي طبعاً” لأنه قاسٍ ولا يتوافق مع أحكام المادة التي يُبنى عليها، فأجاب النوري: لا بأس، نعثر لك على مادة قانونية أخرى مناسبة لمدة الحكم.

ذلك لا يعني أن النوري كان مجرد ناطق بالأحكام التي تأتيه مع المعتقلين من قبل فروع المخابرات، فهو على الأرجح ينفّذ التوجيهات التي تُعطى له مع هامش من الحرية الشخصية يتعلق على الأرجح بتشديد الحكم، إذ لم يُعرف عنه التسامح إطلاقاً. على الأغلب كانت هناك معايير موضوعة له في الثمانينات، المعلن من بينها كان القانون 49 لعام 1980 الذي يحكم بالإعدام على أي منتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهو بموجب المادة الخامسة منه ينطبق بأثر رجعي على الموقوفين والذين كانوا قيد المحاكمة. الأحكام المخصصة للمعارضين الشيوعيين كانت تترواح بين 10 و15 سنة سجناً، أما الأحكام التالية في القسوة بعد تلك المخصصة للإخوان فكانت من نصيب المنتسبين إلى الشقيق اللدود “البعث-جناح العراق”. في العقدين اللاحقين ربما أصبحت المعايير أقل صرامة، واضطر النوري إلى مسايرتها بمنح دقائق للدفاع قبل النطق بالحكم المبيت سلفاً.

بين عامي 1979 و2011، تولى النوري إصدار الأحكام على معارضي الأسد، باستثناء نسبة ضئيلة منهم حوكمت في محاكم ميدانية أو عسكرية. هو الوجه الأشهر المشترك بين أولئك المعتقلين الآتين من معتقلات وفروع مخابرات وجلادين عديدين، وبتهم متباينة أو تشي بتناقض مشاربهم الأيديولوجية. البعض منهم رآه لدقائق قد لا تغطي أصابع اليد الواحدة، نطق خلالها الحكم على عجل وأمر بإدخال سواهم، والبعض الآخر أتيحت له فرصة التحدث إليه بجمل قليلة. ذلك خاضع لمزاج النوري في وقت الجلسة، وفي كل الأحوال كان ينهي حديثه إلى المعتقل بطرده قائلاً: انقلعْ. إنها كلمته الأشهر، ومثار تندر بين السجناء الذين صار الأقدم منهم يستقبل الأحدث العائد من المحكمة إلى الزنزانة بسؤاله عما إذا قال له النوري انقلع أم لا، وربما أمكن تقسيم المعتقلين بين من كانت له فرصة سماعها ومن لم يُتح له الكلام أصلاً ليسمعها.

أحياناً كان بعض الحوارات القصيرة مع النوري ينتمي إلى عالم اللامعقول؛ يحدثنا الصديق المعتقل السابق عن معتقل بتهمة الانتماء إلى “البعث العراقي” سبق أن حوكم في المحكمة ذاتها قبل عهد النوري، وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، ثم بقي معتقلاً حتى التسعينات حين صدر قرار بإعادة محاكمة المعتقلين من أمثاله. نطق النوري حكمه بالبراءة، فسأله المعتقل: براءة يعني قديش؟ كرر النوري: براءة. فقال له المعتقل أنه يفهم كلمة براءة، لكن في المرة السابقة كانت السنوات الثلاث تعني البقاء من السبعينات حتى التسعينات، ويريد الآن معرفة كم سيكلّفه حكم البراءة. لحظتها أيضاً نطق النوري بحكمته الشهيرة: انقلعْ.

في المنطق الأسدي ذاته، الذي نظنه من عالم اللامعقول، تنضوي أحكام فايز النوري التي لم تكن تعني على الإطلاق أن المحكوم سيخرج من السجن مع انقضاء مدتها. فقط خلال فترة محدودة كان لها أثر محدود على بعض المعتقلين، إذ صار انقضاء مدة الحكم إيذاناً بنقلهم من سجن تدمر الرهيب إلى سجن صيدنايا الأقل وحشية في تلك الحقبة! الأنكى من ذلك أن الأسد كان يصدر عفواً عن المعتقلين الذين أنهوا محكوميتهم ليُفرج عنهم حقاً وهذه سابقة تاريخية على الأرجح، لأن العفو مقترن دائماً بجزء من العقاب أو به كله.

قبل سنة بالضبط، انتشرت صورة النوري المصاب بشلل جزئي، وفي تشرين الثاني من عام 2012 كان قد عُثر على جثة ابنه محمد، وقيل أن رأسه كان مفصولاً عن الجسد الذي لم يسلم من التمثيل به، واتهمت مواقع موالية جبهة النصرة بقتله. من مصادفات القدر أن الابن الذي يحمل اسم حافظ هو الذي سيحاول استئناف مسيرة أبيه في العلاقة مع السلطة، مع الإيحاء بأنه يثأر لمقتل أخيه.

حافظ النوري سيرأس مجموعة من المقاتلين غير النظاميين، أي ما يُعرف بالشبيحة، الذين سيشاركون في معركة استعادة مدينة دير الزور التي تنحدر منها العائلة. وسينشر صورته على حسابه في فايسبوك وسط مقاتلين في شباط 2019، لتأتي التعليقات مثنية عليه ومترحمة على مقاتلي الأسد، خاصة البطل “نافذ أسد الله”، وهذا لقب العميد في الحرس الجمهوري عصام زهر الدين. في صورة أخرى على حسابه، يظهر حافظ النوري وراء طاولة مكتب مبالغ في ضخامتها وإلى يساره على الحائط صورة أبيه، بصفته هنا المدير العام لشركة النوري التي تعمل في البناء وشبكات المياه والطاقة البديلة… إلخ. أما صورة البروفايل فهي، كما ينبغي أن تكون، لبشار الأسد تهنئة له بولايته الجديدة في أيار 2021. بالعودة إلى صورته بين المقاتلين، تلفت الانتباه تلك التعليقات التي تخاطبه بـ”أبو سليمان”، أي باللقب الذي كان حافظ الأسد قد اتخذه لنفسه. كأنه، كولد بارّ، يحاول استئناف سيرة أبيه، لعل الأيام تكتب: مات أبو خالد.. عاش أبو سليمان.

المصدر: موقع المدن

قد يعجبك ايضا