الحكم المافيوي ليس قدراً

 

أنقذت كل من انتفاضتي الجزائر والسودان رهانات ثورات الربيع العربي، وسوف تجبر المحللين والسياسيين الذين شكّكوا بصدقية قضيتها، وحقيقة أهدافها، وطبيعة القوى الاجتماعية التي حملتها، وإخلاص المثقفين الذين نافحوا عنها، على إعادة التفكير في الإجابات الواهية والفقيرة التي بلوروها عن أسئلتها المصيرية.

(1)
أول هذه الأسئلة يتعلق بأصالتها كثورات شعبية، فلم يقتصر إنكار هذه الأصالة على رجال الحكم الذين وصفوها في أكثر من قطر عربي بالمؤامرة الأجنبية، أو بخدمة أجندات خارجية، وإنما شمل مثقفين وسياسيين يساريين وقوميين كثيرين، معارضين أو شبه معارضين في بلدانهم، لم يتردّدوا بإدانتها، واتهام القائمين عليها بالجهل أو بالعمل في خدمة أغراض الإمبريالية والصهيونية والتآمر لحسابهما. وقسم كبير من هؤلاء الذين شكّكوا بهذه الثورات خلطوا بين أوهامهم وتطلعاتهم، وحرمهم تحجّر قلوبهم قبل عقولهم وعقائدهم، من إدراك عمق المعاناة التي تعيشها شعوبٌ خسرت جميع رهاناتها خلال العقود الخمسة الماضية، وانهارت كل آمالها وتطلعاتها وثقة أجيالها الجديدة بالمستقبل. ولم يقبل قسم آخر من هؤلاء المشككين أن يصفها حتى بانتفاضات، وجعل منها “فورات” أو تمرّدات غوغائية، لا ترقى إلى مستوى الانتفاضات، فما بالك بالثورات الشعبية. وأخذ عليها افتقارها للنظرية والفكرة الموجهة والقيادة المنظمة والخطة الواضحة، كما لو كان على المجتمعات أن تعيد اختراع العجلة بنفسها، بدل تعميم صناعتها، وبناء المركبات التي تسير عليها.
تنحو النخب الاجتماعية، حفاظا على دورها، وتثبيتا لموقعها المتميز، إلى الاعتقاد بأنها الحاملة الوحيدة للوعي والإرادة ومواهب التصوّر والتصميم والتنظيم، وهي تميل، في سعيها إلى الدفاع عنهما، إلى المطابقة بين مفهومي الشعب والرعاع، مثلما تطابق بين نفسها والوعي والمعرفة، فلا ترى في أي تحرّك لأبناء البلد “العوام” ما يمكن أن يحتوي على أي فعالية إيجابية، ويخرج عن سجل الصراعات الطائفية والقبلية والعائلية. ولا تستطيع أن تتصوّر حركة تغيير أصيلة، تنطوي على الحد الأدنى من الصدقية والقيم الإنسانية، لا تخضع سلفا لإرادتها، ولا تقبل أن ترمي لها الطاعة وتسلمها قيادها وقيادتها.
والسؤال الثاني الكبير الذي طرحته ثورات الربيع العربي، وأساء كثيرون فهمه وتحليله، يتعلق بهوية هذه الثورات، وطبيعة أهدافها العميقة، وتطلعات جمهورها، فقد استسهل محللون وسياسيون كثيرون قصيرو النظر اتهامها بالإسلاموية، بسبب ما شابها، هنا وهناك، من انزلاقات أيديولوجية، أو نزاعات أهلية، غطت على الصراع السياسي الأصلي، فاعتبر هؤلاء أن ما جرى ويجري كان بالأساس والأصل تجسيدا لنوعية المطالب السلبية التي تحرّك الشعوب، الدينية والطائفية والمناطقية “المتجذّرة”، بالولادة، في عمق الوعي والثقافة الشعبيتين، لدى العربي والمسلم، والتي تقف فخّا منصوبا أمام أي تطلعات سياسية وفكرية تحرّرية.
وهكذا غلبت على تحاليل ثورات الربيع العربي روايةٌ تربط بينها وبين القوى والحركات الإسلامية المعارضة، حتى ساد الاعتقاد بأنها قامت بدفعٍ من هذه الحركات، ولم تعمل إلا على تعبيد طريق السلطة لها، أي إلى استبدال ديكتاتورية دينية أو ثيوقراطية أسوأ تعصّبا وإقصائيةً بديكتاتورية “علمانية”. بل لقد ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، ليؤكد أن هذه الثورات لم تكن بالأصل إلا ثورات إسلامية وطائفية، هدفها القضاء على النظم العلمانية التي أقامها الغرب بالتعاون مع بعض النخب الأقلوية المتنوّرة لمساعدة المجتمعات على التعامل مع واقع العصر، وتحقيق بعض التقدم العلمي والحضاري الذي يحتاجه استمرارها وبسط السلام والاستقرار في ربوعها. وقد أعادنا هذا التأويل إلى نقطة الصفر التي أسّست لاستمرار النظم الديكتاتورية والفاسدة معا، وهي الخوف من أي حركة تغييرٍ في اتجاه تحرير الحياة السياسية والفكرية، خوفا من إتاحة الفرصة أمام الإسلاميين لأخذ الحكم، فصار التمسّك بنظم الأوليغارشية وحكم المافيات السياسة الواقعية والعقلانية الوحيدة للمحافظة على مكتسبات المجتمعات من المدنيّة والحداثة. وصار ينظر إلى المثقفين المتضامنين مع حركات الاحتجاج الشعبية على أنهم متواطئون مع الرجعية الدينية والطائفية، بدل أن يكونوا رديفا للنخبة “العلمانية”، ومدافعين عن قيم التقدم الإنسانية. هكذا التقى من جديد فكر مناهضة الثورات الشعبية مع نظرياتٍ أو أشباه نظريات، صنعتها على عجل، بعد انهيار جدار برلين، وبشكل خاص بعد أحداث “11 سبتمبر” في 2001 في نيويورك، عنصرية غربية مبطنة قرّرت أن العرب، أفرادا وجماعات، لا يمكن أن يتأقلموا مع قيم الحضارة الغربية الإنسانية، وأن تشبثهم الذي لا يتزعزع، بعكس جميع الشعوب الأخرى، بثقافتهم وقيمهم الخاصة، يجعل منهم استثناءً بين المجتمعات البشرية، ويمنع عليهم ولوج عهد الحرية والديمقراطية إلى أجل غير مسمى.
والسؤال الثالث الذي لا يزال يحوم حول صورة المجتمعات العربية، ويقوّض شروط اندماجها في العصر والعالم، ويغلق عليها آفاق التقدّم والمستقبل، هو سؤال العنف الذي أصبح، مع ربط الإرهاب بالإسلام والعرب، رديفا لمعنى السياسة ومضمونها في البلاد العربية، في نظر قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي، بل العربي نفسه. وما من شكٍّ في أن أعداء الحرية في العالم العربي وخارجه نجحوا في أن يطابقوا بين الثورات الشعبية وانفجار العنف متعدّد الأشكال، السياسي والإثني والطائفي والإرهابي معا، على أمل أن يساهم ذلك في إغلاق ملف الثورة والاحتجاج في هذه البلاد، وأن يشرعن فيها إعادة تأهيل حكم الاستبداد والقمع العاري، ويضمن لهذا النمط من الحكم، المستمر منذ نصف قرن تقريبا، الدعم الدولي الخارجي، حتى يمكن إطباق الحصار الكامل على الشعوب، وتبرير الحجر عليها، ووضعها تحت المراقبة والإشراف الدائمين، وحرمانها من أي حقوقٍ سياسيةٍ أو فرص تحرّر مستقبلية.

(2)
جاءت انتفاضتا السودان والجزائر لتثبتا من جديد أن الحراك الشعبي الذي شهدته مجتمعات المنطقة بأكملها يشكّل، بالعكس، جزءا من حراك عام، يعلن نهاية عهد الاستثناء الذي فرض على الشعوب العربية لأسباب داخلية وخارجية مترابطة، بمقدار ما يبرز فشل الخيارات السياسية التي حكمت نصف القرن الماضي من حياة هذه المجتمعات، ومن ورائه إخفاق النخب الاجتماعية التي صاغتها ودافعت عنها، وأبعد من ذلك إفلاس أنماط الحكم والنظم السياسية التي رعتها وقواعد ممارسة السلطة، وتشكيل النخب السياسية ذاتها، وهو يشكل أيضا جزءا من تحوّل عالمي شامل، يتعلق بانتقال المجتمعات من عصور الإقطاع الاجتماعي والسياسي إلى عصر سيادة الشعوب ومشاركتها في تقرير مصيرها وحكم نفسها بنفسها، فهي ثوراتٌ شعبيةٌ أصيلة، هدفها إنقاذ الرهانات الوطنية المختلفة، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية الأمنية، عبر تغيير شروط ممارسة السلطة، وإقرار سيادة الشعوب وحق المواطن في أن يكون مواطنا، أي حرّا، وأن يشارك في تقرير مصير وطنه، ويساهم في حمل المسؤولية، أي أيضا في المساءلة والمحاسبة لأصحاب المسؤولية العمومية، حتى لا يتحوّل الحكم إلى وصايةٍ أبدية، ولا تتحول النخبة الحاكمة إلى طبقةٍ طفيليةٍ، تستغل مركزها في السلطة، للانفصال عن الشعب والسطو على موارده وفرض العبودية والإذعان الأبدي عليه.
وهي لذلك ثوراتٌ سياسية اجتماعية تعنى، بالدرجة الأولى، بتغيير نظم الحكم وطريقة ممارسة السلطة التي تشكل المدخل الضروري لإعادة النظر في جميع الخيارات السياسية وإصلاحها، الثقافية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، والتي من دونها لن يكون هناك بعد الآن شعب ولا أمة، وإنما مافيا تتحكّم بكل موارد القوة والسيطرة المادية والمعنوية، وتنزع إلى تحويل الشعب إلى أفراد مسخّرين لخدمة مجدها ومصالحها. وهذا ما حصل في بلدان عديدة.
والواقع أن الانزلاق نحو التخندق الأيديولوجي والإثني والطائفي، الإسلامي وغير الإسلامي، لم يكن إلا تعبيرا عن المأزق الذي وضعت فيه هذه الثورات، وحرمانها من تحقيق أهدافها، ودفع قطاعاتٍ من جمهورها الأكثر هشاشة سياسية وفكرية إلى البحث عن مخرجٍ من خلال المسارب الضيقة الصغيرة التي شجّعت عليها النظم القائمة، وحفرتها من قبل خصيصا لتخفيف ضغط طوفان الثورة الكامنة، وفيما بعد لتقسم صفوف الحركة، ودفعها إلى البحث عن رهاناتٍ إرضائية هزيلة تجهض أهدافها الرئيسية.
تعيد صور المسيرات الشعبية السلمية في مدن الجزائر والسودان اليوم إلى الأذهان صور مثيلاتها في مدن تونس ومصر واليمن وسورية وليبيا، بعد سنواتٍ من إجهاضها وقمعها فيها. ومن المفيد التذكير هنا، للذين أدانوا هذه الثورات بسبب العنف الذي رافق عمليات القضاء الوحشي عليها، بصورة ميدان التحرير الذي احتشد فيه مصريون أحرار من كل الطوائف والمناطق والمذاهب، وأنتج أبهى صور الأخوة والتضامن والوئام، ولم تطلق فيه رصاصة واحدة إلا من قوات قمع النظام. وصورة آلاف اليمنيين الذين بقوا، سنتين كاملتين، يودّعون سلاحهم على مداخل مواقع التظاهر، ويقفون، موالين وثائرين، وجها لوجه، للتعبير بسلام وصمت ورباطة جأش غير مسبوقة، عن إرادتهم وتصميمهم المتبادل، قبل أن تقطع عليهم خيانة علي عبد الله صالح وحلفائه الخارجيين، الطريق إلى تسويةٍ مقبولة. وكذلك صور السوريين الذين ظلوا يتلقون في مسيراتهم المدنية والحضارية رصاص القناصة وأجهزة القمع وفرق الموت، مع سقوط عشرات القتلى يوميا، خلال شهور طويلة متواصلة، بروحٍ من التضحية المقدسة في سبيل الحفاظ على سلمية الثورة وأهدافها الإنسانية النبيلة، قبل أن ينزلق أي فرد منهم إلى استخدام السلاح حمايةً للمسيرات، ودفاعا عن حقهم في الاحتجاج السلمي، ورفض الخنوع والانصياع إلى منطق القوة والعنف.
وفي جميع هذه الأحداث والمسيرات والأفعال وردود الأفعال، أثبت “الشارع”، وأبناء الشعب من الفقراء والبسطاء وغير المثقفين، أنهم ليسوا رعاعا بأي حال، وأنهم كانوا على قدرٍ من الحكمة والوعي والانسجام والتفاهم والتضامن الذي طبع مسيرات الثورات الأولى لا حدود له، وأن من سار وراء أهوائه الطائفية والسياسية والأيديولوجية والمصلحية كانت عناصر النخب والأحزاب “المتعلمة” والمنظمة والمتمدّنة والعارفة بشؤون السياسة في معسكر الحكم والمعارضة معا. هؤلاء هم من دفعوا الجمهور الشعبي نحو الأسلمة الأيديولوجية والطائفية والنزاعات القومية والعنف.
أما أولئك الذين اعتقدوا أن الشعب غير جاهز للديمقراطية، وأنه يجهل معنى الحرية، وأنه مدانٌ بمنطق العصبية الطائفية والقبلية، ويحتاج من أجل ذلك إلى طليعة ونخبة رائدة تؤهله للولوج إلى السياسة، فقد أظهرت الوقائع أنهم كانوا المنظّرين الحقيقيين للاستبداد، فباسم هذا التأهيل تمت شرعنة انتزاع السيادة من الشعب، وإيداعها في حجر نخبة حولتها إلى رأسمالها المادي والمعنوي الخاص، واستخدمتها لإخضاع الأفراد وتجهيلهم وتجريدهم من خصائصهم الإنسانية وحقوقهم وحرياتهم، ودفعهم، كما يظهر هذا العقد الأخير كله، إلى الارتماء في ثوراتٍ عنوانها: إما قاتلا أو مقتولا، بعدما ألغت أي هامشٍ ممكن للحفاظ على الكرامة والحياة.
لا يختلف الأمر عن ذلك، فيما يتعلق بالتدخلات الأجنبية التي سوف تتحول إلى خراج متقيّح في جسد الثورات العربية، فلم تكن الشعوب العربية تجهل خطرها، وهي التي خاضت حروبا طويلة لمواجهتها والتحرّر منها، وتولدت لديها مناعة عميقة تجاهها. ما كسر هذه المناعة ليس عودة ثقة الناس بالأجنبي، وإنما خيار الحسم العسكري، وإغراق المظاهرات بالدم الذي تبنّته نخبٌ بدا حكمها المحلي أو “الوطني” أكثر وحشيةً واغتصابا للحق والسيادة الشعبية، واستهتارا بمصالح المجتمعات، وكسرا لإرادتها من حكم النظم الاستعمارية الأجنبية. وقد برهنت الأحداث، على أية حال، خطأ أولئك الذين استجاروا من الرمضاء بالنار، لأن التدخلات الأجنبية الفعلية كانت لصالح تثبيت النظم الحاكمة المستبدة، وليس لتجنب الدخول في الحروب الأهلية، وما يرافقها من خراب ودمار وموت بالجملة، كما كان يعتقد من أحسن الظن بقيم التضامن العالمي ووثق بصدقية الدفاع عن حقوق الإنسان.
أعادت ثورتا الجزائر والسودان للثورات صدقيتها وأصالتها ثورات شعبية سياسية وإنسانية، ومن ثم شرعيتها. ونزعتا في المقابل أي شرعية عن الحروب الأهلية التي حاولت من خلالها نظم المافيا العربية أن تبرّر قتلها للشعب، وتخريب بلدانها للبقاء إلى الأبد، حتى لو تحوّلت إلى بيادق في أيدي الدول الأجنبية الحامية، وضحّت باستقلال البلاد ومستقبل أبنائها. وأظهرت، كما لا يقبل الشك، أن الحكم المافيوي الاستبدادي والفاسد معا ليس قدرا في البلاد العربية، ولن يقبل القضاء عليه أي اسثناء.

المصدر: العربي الجديد ٨ آذار ٢٠١٩

 

قد يعجبك ايضا