ساطع نور الدين
هذه المرة سيكون الفراق أصعب وأخطر. ولن يحسب خروج تركيا الوشيك من أهم قواعد نفوذها العربية، القاعدة السورية التي بنت عليها إستراتيجية متكاملة تمحو أخطاء التاريخ المشترك، وتقدم للمشرق العربي نموذجاً سهل الاحتذاء، يصالح العصبية الوطنية والفكرة القومية مع الديموقراطية والاسلام، مجرد إنسحاب تكتيكي، يحافظ على آفاق السياسة والتجارة التركية مع الجيران العرب.
من الآن فصاعداً، اصبحت تركيا دولة بلا مشروع، وبلا طموح مشرقي عربي. عادت الى سيرتها الأولى، السابقة للربيع العربي الموؤد، الذي رفعت رايته طويلاً، قبل ان يخيب أملها السوري الاخير، وتغرق في حرب استنزاف يخوضها المقاتلون الاكراد مع وحداتها العسكرية المنتشرة على الاراضي السورية، وتنفجر في وجهها معضلة اللجوء السوري التي تهدد بتغيير سياسي جذري، ليس فقط في الانتخابات التركية المقررة العام المقبل، بل في طبيعة العلاقات المنشودة بين الشعبين الجارين، اللذين يخوضان مواجهات يومية ليس لها أفق سوى القطيعة التامة، التي سادت منذ الحرب العالمية الاولى وحتى مطلع القرن الحالي، عندما أزال الرئيسان السوري بشار الاسد والتركي رجب طيب اردوغان الحدود المشتركة بين البلدين. وهو مشهد قد يتكرر في المستقبل القريب، من دون أن يتغير الكثير من بروتوكولات السياسة في انقرة وفي دمشق.
لن تكون الثورة السورية، التي كافحت أنقرة لتجنبها، وجاهدت لإقناع الاسد بتفاديها بالإصلاح، سوى محطة عابرة يسهل شطبها من سجلات تاريخ العلاقات الثنائية، بعدما أعلنت وفاتها منذ سنوات، وأرجئت مراسم دفنها التي يبدو أنها ستتم هذه المرة في العاصمة التركية بالذات، بعد أن تنجح تركيا في تنفيذ مهمتها الجديدة التي حددها وزير خارجيتها مولود تشاووش أوغلو بالامس، وهي مصالحة النظام والمعارضة السورية، من دون ان يوضح ما اذا كان يقصد ضم جبهة “تحرير الشام” وقائدها ابو محمد الجولاني الحليف الوثيق لتركيا الى تلك المصالحة..
هو شأن تركيا طبعا، أن تسدل الستار على سياسة سورية إمتدت لعشر سنوات عجاف، باتت حصيلتها النهائية تختصر بالاعتداءات العنصرية شبه اليومية التي يشنها مواطنون أتراك على اللاجئين السوريين، والتي ليس لها مثيل في أي من بلدان الشتات السوري.. وكأنها تستحضر ضغائن التاريخ، لتؤجج كراهيات الحاضر، بعدما عجزت تركيا عن احتواء الاسد، ثم عن تنظيم معارضيه وتجميعهم، بما يؤهلهم للقتال دفاعا عن وطنهم وأرضهم، مثلما قاتل ويقاتل الفلسطينيون كل يوم، ومثلما يحارب الأوكران أيضا، الذين يقدمون أمثولة وطنية مشرفة، في وجه احتلالات متشابهة، بل متطابقة.
الموقف المفاجىء الذي عبر عنه الوزير التركي يطوي حقبة كاملة من التوسع والنفوذ التي أدارها حزب العدالة والتنمية الحاكم، منذ أن فتح الحدود مع سوريا، للنظام ثم لمعارضيه، حتى كاد يتحول الى راعي التغيير في دمشق.. قبل ان يصطدم بالتحدي الإيراني، ثم بالتدخل الروسي، ويصبح همّه الرئيسي الآن هو إقفال تلك الحدود على ثلاثة ملايين لاجىء سوري يطمح الى إعادتهم الى بلادهم، ولاحقاً المساهمة مع النظام في إعادة إعمار سوريا، ولو من بعيد.. ربما قبل تحقيق المصالحة بينه وبين معارضيه الذين لن يحتفظوا بهذه الصفة بعد أن يفقدوا المنصة العسكرية والسياسية التركية الرئيسية لمعارضتهم، ويكتشفوا أنه ليس لها بديلٌ أبداً.
مصلحة تركيا اليوم، وغدا، أن تصالح الاسد، وأن تتخلى عن المعارضة: الاستنتاج ليس بجديد، وقائع الارض السورية حاسمة في هذا الاتجاه. هو أشبه بزلزال سياسي، متوقع منذ أشهر، بل منذ سنوات. الثمن الذي سيدفعه الشعب السوري سيكون باهظاً جداً.. لأن جثة الثورة التي تدفن الآن، ستقع على كاهل نظام لم يولد بعد.
المصدر: المدن