عبد الناصر العايد
تشير معلومات مؤكدة من شرق سوريا، إلى أن بقايا تنظيم داعش بدأت تستفيد من تجارة المخدرة الرائجة هناك عبر فرض ضريبة تمثل نحو عشرة في المئة من أرباح التجار والمروجين الذين يدفعونها تحت التهديد بالاغتيال بذريعة “الإفساد في الأرض”.
ومن المُسلّم به اليوم أن بقايا التنظيم، تعمل بمثابة سلطة موازية في مناطق شرق الفرات. ولجهازها الأمني الموروث من حقبة سيطرته على المنطقة، خبرة واسعة في جمع وتقصي أدق المعلومات عن السكان المحليين، فيما يتمتع قادته السرّيون لكن المعلومون جيداً للأهالي، بالقدرة على اتخاذ قرارات التصفية بكل راحة ضمير، والإيعاز لخلاياهم المنتشرة في كل مكان، بتنفيذ أي عملية اغتيال مطلوبة.
لقد مكّن هذا الأسلوب، التنظيم، من البقاء على قيد الحياة، منذ سقوطه في الباغوز في آذار/مارس 2019 حتى اليوم، وأحصى النشطاء نحو 350 قتيلاً في عمليات اغتيال نفذها التنظيم، طاولت عدداً كبيراً من التجار والمتمولين وأصحاب المهن الأعلى دخلاً، مثل الأطباء والصيادلة، ويحتمل أن ذلك كله بسبب عدم امتثالهم لدفع الأتاوات المفروضة عليهم.
إن تجار ومروّجي المخدرات معروفون للسكان المحليين، مثلهم مثل أي صاحب مهنة حرة. فهم يمارسون أنشطتهم من دون مضايقة تُذكر من جانب “قوات سوريا الديموقراطية” المسيطرة هناك. ومن الهيّن على جهاز استخبارات داعش الوصول إليهم وابتزازهم، خصوصاً أن ميدان عملهم يتعارض جذرياً مع الأعراف السائدة ومع التعاليم الدينية، وهم مكروهون ومنبوذون اجتماعياً أيضاً في غالبيتهم العظمى، إضافة إلى كونهم من أرباب السوابق.
لقد تشدد التنظيم، سواء عندما كان يسيطر على المنطقة رسمياً، أو كسلطة موازية كحاله اليوم، في أمور أكثر بساطة، مثل التدخين ولعب الورق أو نقاب النساء أو العمل لدى “قوات سوريا الديموقراطية” أو إدارتها المدنية، لكنه لم يحرك ساكناً اليوم بخصوص تجارة المخدرات المتصاعدة والمتفشية. الأمر الذي لا يمكن تفسيره سوى بكون التنظيم شريكاً في أرباحها، وأنها تدر عليه مبالغ طائلة، في حين يعاني شحّ المال بعد استنزافه لسنوات، وبعدما قُتل قادته الذين كانوا مؤتمنين على مبالغ طائلة، وتم تجفيف مصادر تمويله الخارجية أو توقفها.
ويؤكد نشطاء من شرق سوريا، أن التنظيم هناك يتلقى اليوم أمولاً تفيض عن حاجته، ومن بين مصادرها الرئيسية التجارة العامة، مثل تجارة السيارات والمواد الغذائية، وتجارة النفط، والضرائب المفروضة على المعابر النهرية التي يتم عبرها استيراد البضائع من مناطق سيطرة النظام وتهريب بضائع أخرى مثل النفط والقمح، ومكاتب تحويل الأموال النشطة لاعتماد الأهالي على ما يرسله أبناؤهم من دول الخليج وأوروبا، وحتى من بعض المنظمات المدنية العاملة في المنطقة والتي لا تستطيع أن تزاول أنشطتها من دون أن تدفع لوكلاء التنظيم نسبةً من المنح المقدمة لها.
وينفق التنظيم جزءاً من الأموال المجبيّة على إعادة بناء قدراته محلياً، ويعتقد أن نحو 300 إلى 400 شخص يحصلون على راتب دائم من التنظيم نظير تفرغهم للأعمال الموكلة إليهم، كما يمنح رواتب لنحو 400 من عائلات قتلاه ومعتقليه، ويُعتقد أن التنظيم يستثمر في بعض البؤر الكثيفة والحرجة، مثل مخيم الهول شرقي الحسكة، ومخيم روج قرب المالكية، بهدف تنشئة جيل من الأعضاء المحتملين وإعدادهم للعمل مستقبلاً.
أما الأموال الفائضة عن حاجته فيتم إرسالها إلى الخارج عبر مكاتب تحويل عملات غير شرعية، والوجهة الرئيسية لتلك الأموال تكون مدينتي أربيل والسليمانية في العراق، وهي تذهب غالباً إلى القيادة المركزية للتنظيم، لإعادة بنائه وتنظيمه في معقله الأم: العراق.
يمكننا أن نتخيل السيناريو المستقبلي بسهولة: التنظيم يعاود الظهور في العراق وشرق سوريا، وإيران تنشر مزيداً من قواها ومليشياتها لمواجهته، التنظيم يقتل ويهجر السكان المحليين الذين لا يتعاونون معه، وتستكمل المليشيات الإيرانية مهمة تدمير ما تبقى من حواضر ذلك الجزء من المشرق العربي الذي لم يخضع لسلطتها أو يلتحق بها تلقائياً بسبب الاختلاف العقائدي. وهكذا يحقق الظهور الجديد للتنظيم، ما لم تستطع إيران تحقيقه في الموجة الأولى، فلماذا لا تضخ مليشياتها مزيداً من المواد المخدرة في المنطقة، وتدمر وتفكك والمجتمعات المحلية، وتحيلها إلى خرائب لا يمكن أن يزدهر فيها سوى المتشددين والعدميين؟
تذكرنا الوقائع سالفة الذكر بالعلاقة الوطيدة بين قطاع الإتجار بالمخدرات والحركات الدينية المتشددة، من “طالبان” في أفغانستان، إلى “حزب الله” في لبنان، وتؤكد علاقة التكامل التي تربط هذه التنظيمات بعضها بالبعض الآخر، وأن وجود إحداها يمهد ويسهل وجود وبقاء الأخريات، رغم التناقض في التوجهات والشعارات المعلنة. كما يثبت أخيراً أن الشعارات التي ترفعها تلك الحركات هي ستار تخفي وراءه تطلعاتها الفعلية، وهي تخرقها بمنتهى السهولة، ما أن تجد لها مصلحة في ذلك.
المصدر: المدن