تصفية حساب مع الذاكرة.. يوميات الحصار في حلب 3/3

جسر – محمد سبسبي

تحت حصار شديد الوطأة يغدو كل حدث فاجع، اعتيادياً، يستحوذ الخوف على كل شعور آخر ويفقد الناس رغبتهم في الحزن. في الصباح ألقي السلام على صديق، وبعد الظهر يخبرني صديق آخر باستشهاد الأول بجولة القصف الصباحية، لا نجد متسعاً لرثائه وتذكّر مناقبه، نترحم عليه بعبارات جاهزة وسريعة، ثم نلتفت للبحث عن طرق جديدة للنجاة نعتقد أن الراحل لم يأخذها في الحسبان. لم يعد الموت مباغتاً وغدت رهبته باهتة.

برعمٌ بين مفاصل صخرة

معارك مشتعلة وقصف جوي مكثف، مدينة منكوبة تشرف على مجاعة، مستشفى واحد وعشرات القتلى والجرحى، امرأة حامل على وشك الولادة، ورجل عاجز لا حول له ولا قوة، ضمن هذه الظروف المعقدة نتحضر لاستقبال طفلنا أنا وزوجتي، التي لم تكن تحظى بحياة طبيعية لامرأة حامل، فلم تزر الطبيب لتراقب حالة الجنين، ولم تكن تحار في اختيار الأغذية والفيتامينات التي تغذي الجنين وتحافظ على صحتها، كما لم يتح لها أن تختار له/ها،”طقم النزلة”، أول لباس سيرتديه في حياته، تخلينا، مكرهين، عن كثير من الطقوس الاجتماعية المرافقة لمثل هذا الحدث، وما يشغلني الآن هو كيفية تأمين مكان آمن للولادة وطعام كاف للجنين وأمه!

في السابعة صباحاً، وهو موعد الجولة الصباحية من القصف، توجهنا نحو مشفى القدس في حي المشهد، وكأي مشفى ميداني آنذاك يطالعك في فنائه مشهد جثث مصفوفة، مكشوفة الوجه في ساحة صغيرة تبدو كمقبرة مفتوحة، تعرض لساعات قليلة ليتعرف عليها ذووها، أو ستدفن وحيدة كما واجهت قدرها! دخلتْ زوجتي رفقة صديقتها بينما كان الانتظار يستنزف طاقتي في الخارج، امتد بي الزمن فخلتُ الساعة شهراً إلى أن زُف لي الخبر: مبروك، اجتك ليان! قرابة الثامنة والنصف وصلت البيت مع المولودة وأمها. في أقل من ساعة تلد المرأة فتعود لبيتها ولا مجال لأي إجراءات طبية. يتندّر شقيق زوجتي: تفضل عشر سجائر، شايف، الولد بيجي وبتجي رزقته معه!

خيارات محدودة للموت

في الأسبوع الأخير للحصار لم يعد العائق إيجادَ الطعام بل صعوبة التنقل تحت وابل غزير من الحمم والوصول إلى السوق الرئيسي الوحيد في بستان القصر، لكن الخيارات ضيقة، وإن كان ثمة سبيل للاختيار، فأفضّل الموت قصفاً لا جوعاً مع احتمال ضئيل بالنجاة. في ذلك الصباح تحركتُ مع كثيرين نحو سوق بستان القصر، وفي مجموعات صغيرة وتحاشيا للقناصة والصواريخ، كنا نمشي ثم نتوقف، ننحني أو ننبطح، نزحف حيناً ونختبئ أحياناً، نسرع ونبطئ إلى أن وصلنا السوق. تبدو لي رحلة موفقة! إذ حصلت على 3 بصلات، وعلبة لبن وكيلو غرام من اللحم وأسرعت لأفاجأ عائلتي بهذا الكنز!

خلال ثوانٍ شعرتُ بطنين يصمّ أذني وضربة باردة على كتفي رمتني على الأرض، بالكاد فتحت عيناي على غبار ملأ الجوَ دون أن أستوعب الموقف، للحظات ظننتُ أنني ميت وراح خيالي يستعرض صور زوجتي وأطفالي، بعد دقيقة سمعت صوت نفَسي وتأكدت أنني مازلت على قيد الحياة، ولما سمعتُ صراخ الناس من حولي وجلَبَتهم أدركت أن قصفاً استهدف المنطقة، تفحصت جسدي فكانت أعضائي في مكانها لكن الدماء تملأ يدي، اقتربت شاحنة صغيرة تكومت فيها تلة من الأجساد والأشلاء، أخبرني البعض بإصابة في ظهر، أزال الغبار عن وجهي وهمّ بحملي إلى الشاحنة لكنني رفضت، ولما انتصبتُ واقفاً تخلى عن إصراره ورافقني إلى عيادة قريبة، وهناك قدم لي الممرض المنهك إسعافات أولية أوقفت نزيف الدماء وأخبرني أنه جرح سطحي لكن مكانه حساس أسفل الرقبة وعليّ مراجعة المشفى في أقرب وقت.

ليومين تجنّبتُ زيارة المشفى وفي الثالث ذهبت على مضض، كان المشهد أفظع مما تصورت، عدد من الجثث الممددة والأعضاء المتناثرة في المدخل كالعادة، فسحة الاستقبال الصغيرة تحولت إلى غرفة عمليات وانتشر الجرحى في كل متر منها، هنا طفل ينفر الدم من رأسه، وهناك شاب هُشمت قدماه، وفي الزاوية عجوز بلا حراك، أطباء وممرضون متوزعون فيما بينهم، وجرحى آخرون ينتظرون دورهم في العلاج، كان مكاناً أشبه بالجحيم! كان من الترف البحث عن شظية في ظهر رجل يقف على قدميه مثلي! انسحبت من المكان وفي الخارج شاهدتُ امرأتين تبعثران أعضاء بعض الجثث، كانت إحداهما تتفحص قدماً مبتورة، فيما الأخرى تدعي أنها قدم ابنها!

التهجير مقابل الحياة

خلال أيام قليلة ضيقت قوات النظام وميليشياته الخناق على الأحياء المحاصرة وحٌشر الآلاف في بضعة أحياء. انشغل المحاصرون بالبحث عن طرق للنجاة وطُرحت سيناريوهات تنطوي على مخاطر متفاوتة، كالخروج من “المعابر الإنسانية” للنظام والتعرض لخطر الاعتقال أوالتصفية، أو الصمود إلى النهاية ومواجهة خيار الإبادة، أوالانتحار الجماعي كحل أقل ألم و كلفة من انتهاك الأعراض أو التصفية بدم بارد. تردد الكثيرون في الخروج من “المعابر الإنسانية” لعدم ثقتهم في وعود النظام لكنه كان أقل الخيارات كلفة. ثمة بارقة أمل لم تخبُ بعد، فصديقنا الذي خرج بالأمس وصل سالماً إلى بيت أهله في مناطق سيطرة النظام مقابل مبلغ مالي كبير ويستعد للمغادرة نحو إدلب. كان القرار حاسماً بضرورة المغادرة الليلة، وخلال ساعتين تخلّصنا من أي أثر أو دليل يربطنا بالثورة، حذفنا الصور ومقاطع الفيديو، كسرنا الحواسيب وأحرقنا الوثائق، لم يتبقَ من أثر للثورة إلا في قلوبنا، من العسير التخلص من الذكريات إلا أن قادت إلى الحتف!

في الساعة الرابعة من فجر 12 ديسمبر 2016 توجهنا نحو منطقة جسر الحج وهالنا المنظر! تجمّع الآلاف من المحاصرين في مشهد يحيل إلى الحرب العالمية الثانية! كأننا أسرى في أيدي النازيين الجدد نتقدم لمنصة إعدامنا! الظلام ممتد والصمت مهيب يقطعه صراخ أطفال جائعين، والبرد، شريك الحصار، مازال ينخر في عظام الحشود لاسيما كبار السن والمصابين شيخ كبير لم يحتمل قسوة المشهد، يشهق باكياً و يصيح بقلب محروق: يارب كلهم أطفال ونساء! هم في حمايتك يارب.. لا تدعهم للظالمين الذين لا يخافونك يارب! تغمر الناس نوبة بكاء جماعي.أحمل طفلتي التي لم تتجاوز الشهرين وأفكر: أي مأساة فُتحت عيون هذه المسكينة وماذا ينتظرها؟!

يتقدم الناس ببطء، نقترب من آخر نقطة للجيش الحر: استروا ما شفتوا منا وسامحوا تقصيرنا! رح نرجع! تبكي قلوبنا. أمتار قليلة تفصلنا عن عدونا، ينبض القلب بشدة وتبرد الأطراف، نشعر بوخز نظراتهم، يصيح أحد جنود الحاجز: اخلعوا القبعات، يكاد قلبي ينخلع من مكانه! نتابع المسير مطأطئي الرؤوس، نقطع الحاجز الأول، نصل لنقطة يتجمع فيها المدنيون، ننتظر نصف ساعة ثم يصل أبو محمد، يقول متباهياً: اطمئنوا، لن يستطيع أي حاجز إيقاف هذه السيارة! المشوار إلى حي الإذاعة يكلفكم 50 ألف ليرة. لم يكن أمامنا إلا أن نوافق بسرور! كانت المسافة بين منزلي المحاصر ومنزل أهلي لا تتعدى 10 دقائق سيراً على الأقدام، لكنها بعيدة جداً، كتلك المسافة بين الحرية والعبودية، بين الذل والكرامة!

كما الساعات الأولى للحصار كانت ساعات الحرية الأولى مربكة وتبعث على الحيرة والقلق، تملكتني عقدة الناجي ورحتُ أفكر في مصير من بقوا. صباح اليوم التالي كان قد أعلن عن وقف إطلاق النار والتوصل لاتفاق وفق صيغة متوقعة: التهجير مقابل الحياة، البقاء يعني الموت!

كانت حريتي منقوصة، إلى أن تيسر لي الخروج مجدداً نحو مناطق المعارضة بفضل مساعِ من أبو محمد وابتزازه!

قد يعجبك ايضا