المستشارية الإيرانية التي لا يستشيرها أحد

شارك

مصعب الحمادي

عندما اقتربتُ أكثر من اللازم من باب المستشارية الثقافية الإيرانية في حي المرجة بدمشق تقدم نحوي عنصر الأمن الديبلوماسي المتواجد في المكان وسألني بنوع من الاستغراب: “ماذا تريد؟” أجبته من باب الدعابة: “أتيت إلى هنا لأن لدي استشارة” حدق الحارس بي مصدوماً لثانيةٍ واحدة ثم ما لبث أن انفجر بالضحك مربّتاً على كتفي. الموضوع كان مزحةً بالطبع، وقد التقط الحارس المزحة بسرعة. فإيران وأيامها ونفوذها وميلشياتها ونشاطاتها في سوريا بما في ذلك حملات التغيير الثقافي في دمشق وباقي المحافظات كل ذلك صار أثراً من الماضي.

المستشارية الثقافية الإيرانية مغلقة طبعاً شأنها في ذلك شأن السفارة الواقعة على أوتوستراد المزة. لم يقبل الحارس عند الباب السماح لي بالدخول إلا بعد استدعاء قائده المسؤول عن المبنى والذي قبل بعد إلحاحٍ أن يسمح لي بجولةٍ سريعة في الداخل بعد أن تأكد أني أحمل تصريحاً صحفياً صادراً عن وزارة الإعلام في الحكومة السورية الجديدة.

البناء من الداخل خرابٌ بخراب، وخصوصاً الطابق الأرضي حيث تختلط الوثائق الرسمية بقطع الزجاج المكسور بالكتب والمنشورات التبشيرية الملقاة على الأرض. من الواضح أن المبنى تعرض للنهب من قبل مواطنين عاديين في الأيام الأولى لسقوط النظام السابق، وهو أمرٌ يحرص حراس المكان على عدم تكراره. ولعلّ هذا ما ساعد في الحفاظ على مكتبةٍ ضخمة في الطابق الثاني تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب مازالت على حالها فوق الرفوف. معظم الكتب تتناول مواضيع تبشيرية دينية ومنها ما يتناول تاريخ إيران وأدبها ولاحظتُ أن الكثير منها يتناول مواضيع لها علاقة بالممانعة والمقاومة وزوال دولة إسرائيل …الخ. لم يسمح لي حراس المستشارية بالتقاط الصور وتمكنت بصعوبةٍ من مغافلتهم مرتين أو ثلاث دون نجاحٍ كبير.

أخبرني أحد جيران المستشارية الذي يستعين به الحراس أحياناً أن المبنى كان يستخدم لأغراضٍ ثقافية وتبشيرية وكان مركز اهتمامٍ كبير من الحكومتين السورية والإيرانية على حدّ السواء. ففي الطابق الثاني هناك قاعات كبرى مجهزة بالكراسي والطاولات كانت تستخدم في إقامة دوراتٍ باللغة الفارسية. كما أن المستشارية لعبت دوراً في استقبال وفود الحجاج الإيرانيين القادمين إلى دمشق بقصد الزيارة. وفيها مركز طبّي مخصّص للزوار والحجيج والمواطنين الإيرانيين، وبالتأكيد لعناصر الميلشيات العسكرية وعائلاتهم. والمستشارية إلى ذلك هي التي كانت تشرف على المقامات الشيعية في دمشق وخصوصاً مقام السيدة زينب ومقام رقية بنت الحسين، وكذلك مقام السيدة سكينة في داريا.

اشتكى الجيران في الحيّ من الإجراءات الأمنية الصارمة التي كان يتبعها نظام الأسد للحفاظ على أمن المستشارية. فقد اعتاد الجيران على الإغلاق المتكرر للطريق أمام المبنى مع قدوم أعدادٍ كبيرة من عناصر الأمن بين الفينة والأخرى مع أسلحتهم وكلابهم من أجل عمل مسوحاتٍ أمنية شاملة لبناء المستشارية والحارات التي تحيط به، كما أن القلق ساور السكان وبث الرعب فيهم مع الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة لمواقع أنشطة إيرانية، وتصاعد القلق إلى أعلى مستوى عندما استهدفت إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، فليس من المستغرب إذاً أن حالةً من الارتياح تسود سكان الحيّ اليوم مع إغلاق المستشارية وزوال كابوس القيود الأمنية التي طالما فُرضت عليهم بسببها، والمخاوف من العمليات العسكرية في مناطق سكنية مدنية.

يتضح من الواجهات المزخرفة والبذخ في بناء المستشارية وكثرة المترددين على المكان من وفودٍ رسمية وشعبية كم كانت الحكومة الإيرانية تنفق على هذا المشروع وتعوّل عليه لممارسة ما يعرف بالقوة الناعمة للهيمنة على سوريا جنباً إلى جنب مع تدخلها العسكري المباشر لدعم نظام الأسد في وجه الثوار الذين سيطروا في مرحلةٍ ما على أكثر من نصف البلاد. لكن الأمور انقلبت رأساً على عقب يوم الثامن من ديسمبر مع سقوط نظام بشار الأسد، عندما انطلقت قوات المعارضة من إدلب ووصلت إلى دمشق في أحد عشر يوماً فقط. فالمستشارية اليوم ليست مغلقة فحسب، بل إن مستقبلها لا يمكن أن يكون كما كان عليه ماضيها. إنها مستشارية لا يستشيرها أحدٌ اليوم. ولولا حماية الأمن الديبلوماسي التابع للسلطة الجديد لها فلن يُبقي سكان الحي فيها حجراً على حجر.

أخبرني أحد الجيران متندّراً أن مدير المستشارية شوهد قبل يومين فقط من سقوط نظام الأسد يتناول طعام الغداء في مطعم “دجاجتي” المقابل للمستشارية على الطرف الآخر من الشارع. “دجاجتي” ما يزال مفتوحاً يخدم زبائنه إلى اليوم لكن مدير المستشارية لم يعد من بينهم، لقد كانت تلك “دجاجته” الأخيرة.

شارك