جسر
كتب فواز حداد، أحد أبرز الروائيين السوريين الذين آثروا البقاء خارج مواسم الجوائز ودوائر الاستعراض الثقافي، روايته الأخيرة “الروائي المريب” بوصفها وثيقة سردية بالغة الكثافة، تجمع بين حدة السخرية وبصيرة المثقف المتألم العارف. إنها أشبه بـ”منفيستو” متأخر، لا يُعلن مواقف بقدر ما يعرّي طبقة بأكملها، ويقدّم كشف حساب شجاعاً للثقافة السورية في ربع قرن من الانكسار والتواطؤ والصمت.
روائي في الظل، ليكتب كل شيء
هذه ليست مجرّد رواية جديدة في رصيد كاتب مثابر، بل هي، في جوهرها، مشروع فكري طويل النفس، لا يمكن عزله عن السياق الذي نشأ فيه، ولا عن شخصية الكاتب نفسه، الذي لم يقترب يوماً من بهرجة الواجهة، بل راقب، وعانى، ودوّن من الداخل، إلى أن راكم ما يكفي ليخطّ هذا العمل، الذي يكشف ـ لا بشهوة الفضح، بل بوعي التعرية ـ عن البنية السيكولوجية والسياسية للطبقة الثقافية السورية في ربع القرن الأخير.
في “الروائي المريب”، يتحوّل فواز حداد إلى أركيولوجي ثقافي، ينبش طبقات الخطاب واللغة والتسلّط والامتثال والتواطؤ والخوف والجُبن والمكر، ليقدّم صورة بانورامية كاملة عن الوسط الثقافي السوري كما لم تُرسم من قبل، بشخصيات حيّة، شبه نمطية، لكنها مستندة إلى واقعية تفضح أكثر مما تمثّل.
“الروائي الشبح”: هجوم صامت على الجميع
تدور الرواية حول حدث صغير ـ صدور رواية لكاتب غير معروف ـ لكنه يشعل سلسلة من الهلع الثقافي والسياسي، أشبه برجة تفضح هشاشة المشهد. هذا “الشبح”، الذي لا يظهر أبدًا، هو تشخيص وجودي مثير: إنه الكاتب الحرّ، الخارج عن الاصطفافات، الذي يكتب من دون إذن، ومن دون تغطية، ومن دون رغبة في النجاة أو الشهرة.
الرواية تكشف كيف أن وجود رواية جيّدة، خارجة عن السيطرة، يمكن أن يكون حدثًا سياسيًا مخيفًا. وهذا ما يضع الشخصيات الأخرى في حالة من الاضطراب، بدءاً من فريد جسّام ـ ذلك الناقد السلطوي المتسلّق ـ إلى حسين كرّوم ـ المثقف الحزبي الذي يخلط الوطنية بالتقارير ـ إلى باقي النماذج التي تمثّل أطيافًا مألوفة في الوسط الثقافي السوري.
منفيستو بلا شعارات
ما يجعل الرواية مهمّة ليس ما تقوله فقط، بل كيف تقوله. فواز حداد يرفض الأسلبة المباشرة. لا شعارات. لا إدانة فاقعة. بل سرد مشبع بالتهكم، والدقة، والتفكيك النفسي للشخصيات التي تمثّل كلٌّ منها شريحة كاملة من المثقفين: الموهوبون المقمعون، الوصوليون، الانتهازيون، الحزبيون، القوميون، الخائبون، المتثاقفون، الثورجيون الجدد، وكلاب الصيد الثقافية.
في هذا المشهد، تتحوّل الرواية إلى نقد ذاتي لطبقة كاملة، لا بوصفها ضحية السلطة فحسب، بل شريكة في إعادة إنتاجها، عبر آليات التواطؤ، والاستعراض، والمراقبة، والشللية، وتزييف القيمة.
بحث في اللاوعي الثقافي
ما يقدّمه حداد أيضًا هو بحث سيكولوجي عميق في اللاوعي الجمعي للمثقف السوري. ثمة شعور مزمن بالذنب، بالتقصير، بالخوف، بالحسد، بالخذلان. هذه النفس المهزومة، التي تغلّف ذاتها بالخطاب الكبير واللغة الطنانة، يسلخ عنها حداد قشرتها، ليُظهر هشاشتها، وقابليتها للاحتواء، بل حتى للرغبة اللاواعية في أن يُقاد المثقف ويُوجَّه.
هكذا تُقرأ الرواية بوصفها محاولة للقبض على لحظة انهيار: انهيار الأساطير الثقافية التي تأسست منذ منتصف القرن العشرين، وحان أوان دفنها.
خريطة جغرافيا الخراب الثقافي
الرواية ليست أدبية فقط، بل جغرافية أيضًا. إنها تجوب مقاهي دمشق، مؤسسات الدولة، الصحف الرسمية، النوادي الثقافية، وتنتقل من الداخل السوري إلى بيروت، فإلى لندن، لتمنحنا صورة دقيقة عن تشابك المحلي بالعالمي، حيث تتحوّل المؤامرات الثقافية إلى مشاريع دولية، وجوائز الرواية إلى أدوات تحكّم في الوعي، والكتابة النسوية إلى سلعة استعراضية في بازار الحرية الشكلية.
رواية “الروائي المريب” هي وصية مثقف خسر المعركة، لكنه كتبها حتى النهاية. وهي وثيقة تُقرأ، لا كمجرد نص روائي، بل كمحكمة رمزية، تُستدعى فيها الطبقة الثقافية السورية، بكل تناقضاتها، لتواجه تاريخها، ومسؤوليتها، ومآلاتها.