جسر – محمود مرهج
“إن شاء الله الرب يخلّينا تِنْرُدّ شوية الجميل”
يجمع محبّو زياد الرحباني أنه لا توجد طريقة لرثائه، كما لم تكن هناك طريقة للاحتفاء بمجمل نتاجه. فهم الذين أعادوا اكتشافه مراراً وتكراراً، ولا يستطيع الجيل الذي سمع وتعرّف إلى زياد عبر الراديو والكاسيت أن يحاور جيلاً عرفه عبر اليوتيوب، إلا كـ”ندّ” عند الحديث عن إبداع وتأثير زياد الرحباني.
كان زياد ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية، التي لم تنتهِ في تصوّره يوماً. ثار على الظلم الاجتماعي بفنّه، وتمرّد على “نبوءته” في منزل الرحابنة. صديق الشباب، الذي يستطيع أن يقول لهم: “من مرا لمرا عم ترجع لورا”، وهم يضحكون ويغنّون معه. صوت المعترين، الذي يعلّمهم الحب اليساري “بلا ولا شي”.
بقي زياد كما هو، أي كما عرفه جمهوره منذ بدايته: صوت من ليس له صوت. ولم يُسعف محبّيه الوقت — الذي كان زياد “مهووسًا” به — أن يكتفوا منه. فمنذ غيابه عن الإصدارات الموسيقية والإطلالات الإعلامية، تجدهم يقتحمون أيّ مقابلة لشخصية من آل الرحباني، بحثًاً ولو عن نبأ صغير عن زياد.
لم يكن زياد ميتاً، لأنه انقطع عن الإصدار منذ مدة طويلة، بل كان مقاوماً؛ فمن يمثل المستضعفين في هذا العالم، حريٌّ به أن يرفض العروض الإنتاجية التي تتناقض مع كل مبادئه وما يسعى إليه.
“ملك جمال الأطفال”!
يسخر زياد من حادثة اختياره “ملك جمال الأطفال” في مسابقة مدرسية، ويقول عن ذلك أنها ربما كانت مجرد مجاملة لوالدته فيروز، إلا أن زياد شكّل وعيه وتوجهه السياسي الذي رافقه طوال فترة حياته منذ طفولته المبكرة. يستذكر زياد كيف كان يذهب للمدرسة في سيارة خاصة مع سائق، وفي إحدى المرات هجم طفل على زجاج السيارة وطرق عليه قائلاً “مصاري”، ستظهر هذه الجملة لاحقاً في مسرحية “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”.
ولم تخلُ مراهقة زياد من الأحداث الكوميدية التي رواها لاحقاً، مثل كيف كان يأخذ تواقيع والده عاصي على علاماته المتدنية وهو شبه نائم، وامتحان البكالوريا و”خبرية سألوني الناس”، لكن حياة زياد في منزل أبويه كانت مرهقة جداً، فقد كان الطفل “مرسال المراسيل” بين والده ووالدته، الذين شابت علاقتهما مشاكل شخصية، وكان شغل زياد أن يصل الرسائل بينهما، وهذا ما دفعه لمغادرة منزله مبكراً، إضافة إلى الجو السائد في المنزل وضجره من جلسات الطبقة الأرستقراطية.
وجد زياد نفسه في منزل “جوزيف صقر” المغني في فرقة الرحابنة، الذي سيصبح رفيق دربه وشريكه حتى وفاة جوزيف في العام 1999.
“مش لأنو ابن أختي، بس زياد فنان موهوب، تصوّر أنا عملي غنية كان عمره 14 سنة، اسمها ضلي حبيني يا لوزية” – هدى حداد
في سن السابعة عشرة، كتب زياد ولحن المسرحية الموسيقية “سهرية”، التي احتوت على أغانٍ مثل: “الحالة تعبانة يا ليلى”، “يا بنت المعاون”، “دلوني عالعينين السود”. وتُعتبر هذه الأغاني اليوم من الكلاسيكيات اللبنانية، وأظهرت عبقرية زياد الموسيقية المبكرة.
“جايي مع الشعب المسكين”
بعدها بعام، كتب زياد مسرحية “نزل السرور”، التي اعتبرها البعض نبوءة للحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت شرارتها عام 1975. وتُعتبر المسرحية بطرحها السياسي، ونقدها اللاذع في صميم رؤى زياد الرحباني اليسارية.
وفي عام 1977، تزوج زياد الرحباني من السيدة دلال كرم بعد علاقة حب دراماتيكية، انتهت بالطلاق بعد عام واحد، ليكون هذا الزواج الوحيد في حياة زياد الرحباني. عاش زياد معظم سنين الحرب الأهلية في بيروت الغربية، وقدم للمسرح خلال تلك الفترة، ثلاث أعمال هي: “بالنسبة لبكرا شو”، و”فيلم أميركي طويل”، والتي ربما يعدّه محبّوه من أهم أعماله المسرحية، إذ تدور أحداث المسرحية في مشفى للأمراض العقلية، يخوض فيها المرضى نقاشات جدية حول الحرب الأهلية، والأزمة المجتمعية، حيث استعرض فيها زياد عمق الشرخ بين مكونات الشعب اللبناني والخلافات والتحزبات السياسية.
لتأتي بعدها مسرحية “شي فاشل”، ليسخر فيها زياد من الحالة “الوطنية” الهشّة، وارتداد الأفراد إلى طوائفهم. تتحدث “شي فاشل” عن فرقة مسرحية تتدرّب على مسرحية، على نمط مسرح الأخوين رحباني، إلا أن الخلافات الطائفية بين الممثلين أفشلت العمل، ليكون لبنان هو “شي فاشل” بنظر زياد الرحباني.
شخصيات مسرح زياد في تلك الفترة تشبهه وتشبه المتلقي، غالبًا ما تكون شخصيات مهمشة، يعطيها زياد الصوت والمساحة، في جو من السخرية اللاذعة والمرة أحياناً.
في الموسيقى، تعاون زياد مع عدة أسماء، منها لطيفة في ألبوم “معلومات مش أكيدة”، سلمى مصفي في “مونودوز”، جوزيف صقر في “بما إنو”، وسامي حوّاط في “أنا مش كافر” وغيرها الكثير من الأغاني المنفردة والألبومات.
“من نفس الخط القديم، بس عشي جديد”
بعد موت عاصي الرحباني، شكّل زياد ثنائية مع فيروز، لم تكن سهلة عليه، ولا على فيروز، ولا حتى على جمهورها الذي وجد أن زياد أخذ فيروز التي يعرفونها إلى مكان مختلف.
فيروز رفضت أن تغني “كيفك إنتَ”، واستغرق زياد سنوات لإقناعها. هو الذي أتعبه كيف يخاطبها أمام الفرقة المسرحية: (ماما؟ فيروز؟ نهاد؟).
وفي أثناء هجوم النقاد عليه بسبب خروجه عن خط الرحابنة بكلماته وألحانه، أعادها من جديد إلى قلوب محبيها، فصارت فيروز منهم وأقرب إليهم، تقول: “مَلّا إنتَ”، “ضاق خلقي يا صبي”، “رايحة جاي بالبيت طاوشني خلخالي”…
استخدم زياد مع فيروز نمط الـ”بلوز”، الذي استخدمه مع سلمى مصفي، دون أن يتخلى عن الموسيقى الشرقية، كما دمج بين الألوان الموسيقية وابتكر أسلوباً خاصاً يُضاف إلى المدرسة الرحبانية.
“ما متل إجري، ما فارقة معي”
يقول زياد موضححاً، لا مبرراً، فهو كما “رشيد” لا يعنيه أحد، أنه لو بقي الأخوان رحباني أحياء لقدموا ما قدّمه هو لفيروز. وقلما يعرف الناس أن أغنية “قديش كان في ناس” من تلحينه، وهي أقرب لأسلوب الأخوين رحباني.
وكان زياد متفانياً في عمله كما والديه، ووضع الكثير من تجاربه الشخصية العاطفية في أغانيه؛ من “مربى الدلال” التي كُتبت لزوجته السابقة، إلى “عندي ثقة فيك” التي أهداها للنجمة اللبنانية كارمن لبّس، والتي جمعته بها علاقة حب بدأت عندما التقيا في مسرحية فيلم أميركي طويل.
واستمرت هذه العلاقة، التي تُعد من أشهر العلاقات في الوسط الفني، خمسة عشر عاماً، وقد نسبت لبّس الفضل لزياد في انطلاقتها كممثلة.
“من يجد ماجد أبو عبسي يُنقذ الوطن”
يعود زياد، متمرداً على نفسه وعلى مسرحه هذه المرة، بعد انتهاء الحرب الأهلية، وذلك عبر مسرحيتي “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” و”لولا فسحة الأمل”. قدّم زياد مسرحه بعد غياب، لجيل جديدٍ تواق لرؤيته على الخشبة، فتبعوه من صالة إلى صالة، وربما مارسوا “الاستذكاء” و”التحليل” الذي يكرهه زياد.
هنا، يظهر زياد في دور “الضابط”، كأنه “رشيد” بعد أن وجد “التووك”، وتيقن أنه لا حلّ مع الشعب العنيد، الذي يحتاج إلى تغيير كل شيء، بدءاً من مصطلحاته، وقد وضع “الضابط” ثقله في ضابطٍ آخر منشق، هو ماجد أبو عبسي، الذي تبحث عنه الجمهورية كلها. هذا الديكتاتور وحده من يمكنه إصلاح “الشعب العنيد”.
لم تكن آراء زياد الرحباني في السياسة أو الفن ألطف حالاً؛ فقد شكلت تصريحاته جدلاً أينما حل، ورافقتها نبرة لا تخلو من الفكاهة، ممزوجة بفلسفة زياد الصاخبة، شديدة الكوميديا… والكئيبة أحياناً.
“ثورات الربيع العربي فشّلت احتمالية حدوث ثورة حقيقية على فترة”
هكذا كان رأي زياد الرحباني في ثورات الربيع العربي، غير أنه فصّل بينها إلى حدّ ما، فاعتبر ما فعله البوعزيزي أصدق ما يمكن للمرء أن يفعله في سبيل قضيته. وكان ميالاً ومرحباً بالوجود الروسي في المنطقة، مبدِياً عداءه التاريخي والمستمر للسياسات الأميركية وتأثيرها على الشرق الأوسط.
في السياسة، كان زياد شيوعياً ملتزماً، وفي حياته الفنية عُرف عنه أنه كان يتقاضى الأجر نفسه الذي يتقاضاه أي موسيقي في فرقته خلال الحفلات. يكره زياد تقديس الأشخاص، أي الحالة التي يجدها في محبيه، حتى أنه قال مرة أنه لم ينهي يقرأ كتاب “زمن زياد – قديش كان في ناس” الذي كتبه عنه طلال شتوي، لهذا السبب تحديداً.
“ما دام أحلى وردة بتموت”
رحل زياد عن عالمنا ثائراً متمرداً كما عاش، مستقبِلاً الموت على طريقته الخاصة، لتُطوى بذلك مسيرة طويلة لفنانٍ شكّل علامة فارقة في المسرح والموسيقى، مجدّداً إرث المدرسة الرحبانية مع فيروز، تاركاً خلفه الكثير من الأعمال الموسيقية والغنائية التي لم تصدر بعد.