“مثقّف السلطة بين عهدين”.. مرافعة فكرية لمحيي الدين اللاذقاني في دمشق

شارك

جسر – دمشق (ياسر الظاهر)

شهدت قاعة اتحاد الكتّاب العرب على أوتستراد المزة في دمشق، مساء الأحد، ندوة فكرية بعنوان “مثقّف السلطة بين عهدين”، قدّمها الكاتب والباحث السياسي السوري الدكتور محيي الدين اللاذقاني، في أول ظهور علني له في سوريا بعد عودته من المنفى الطويل في لندن.

وشكّلت هذه الندوة لحظة فارقة في المشهد الثقافي السوري، حيث أعادت إلى المنابر الفكرية حرارة النقاش حول الأسئلة العالقة، والمسكوت عنه في العلاقة المعقدة بين المثقف والسلطة.

وافتتح اللقاء رئيس اتحاد الكتّاب العرب، الشاعر والناقد الدكتور محمد طه العثمان، مرحّباً بالضيف العائد بعد غياب، مشيداً بدوره الفكري ومساهماته في تشكيل وعي سوري معارض طوال سنوات المنفى، وتلاه الكاتب محمد منصور، رئيس تحرير مجلة “الموقف الأدبي” وعضو مجلس الاتحاد، بمداخلة تمهيدية تناول فيها أبرز تقاطعات موضوع الندوة مع الواقع الراهن، مؤكداً على أهمية استعادة النقاش حول موقع المثقف في التحولات الكبرى التي تمر بها البلاد.

الندوة، التي امتلأت بالحضور من كتّاب وصحفيين ومثقفين وفاعلين في الحياة العامة، انطلقت من سؤال عميق ومباشر: كيف يمكن للمثقف أن يشهد على عهدين دون أن يفقد صوته أو ينكفئ إلى صمت رمادي؟ من هذا السؤال، انطلق الدكتور اللاذقاني في خطاب مزج بين العقل والعاطفة، مستعرضاً تجربته الشخصية ومواقفه الفكرية، وراصداً مآزق المثقف في مواجهة السلطة، وفي علاقته مع الضمير والناس، في لحظات الخوف أو التحوّل.

وفي معرض حديثه، أشار اللاذقاني إلى أن “المثقف الذي لا ينطق في اللحظة الحرجة يفقد جوهر وظيفته، وإن هو نافق، فإنه ينسلخ عن ذاته”، وقد استشهد بثلاث شخصيات سورية معارضة ومنفية كان لها دور بارز في الوعي الجمعي: الشاعر نزار قباني، والشاعر محمد الماغوط، والقاص زكريا تامر، متوقفاً عند علاقتهم المعقدة بالسلطة، وقدرتهم على قول ما لا يقال في أزمنة القمع.

كما تناول اللاذقاني قضية الصمت والمراوغة التي يقع فيها المثقف حين تتقاطع لحظته الشخصية مع هموم الواقع العام، مشدداً على أن العودة إلى الداخل الثقافي لا تعني تراجعاً أو تواطؤاً، بل مواجهة الأسئلة الكبرى المرتبطة بالذاكرة والمصالحة والتاريخ.

وأشار إلى أن ستة أشهر فقط لا تكفي للحكم على عهد سياسي جديد، لكنه تحدّث عن “ومضات أمل” يمكن رصدها، داعياً إلى كسر الانغلاق والعزلة الثقافية، التي تدفع المثقف إلى العزلة والاستهلاك الذاتي.

وتطرّق النقاش مع الجمهور إلى واقع الكتابة في سوريا، وأزمة اقتصاد الثقافة، وغياب المنصات الكفيلة باحتضان الطاقات الجديدة. كما طُرحت أسئلة حول الدور النسوي في الثورة السورية، حيث أشار اللاذقاني إلى رمزين بارزين: صمت غادة السمان وصراخ مي سكاف، معتبراً أن كليهما شكّلا نماذج رمزية مؤثرة عالمياً، محذراً في الوقت نفسه من محاولات تشويه هذا الدور عبر شعارات دخيلة على السياق المحلي، باسم “الجندرة” أو عبر حركات نسوية مصنّعة ومُسقطة.

في ختام محاضرته، أعلن الدكتور اللاذقاني تفاؤله بما يجري الآن في سوريا، قائلاً: “أنا متفائل بواقع ثقافي قادم أجمل”، في إشارة إلى أن مسار التغيير الثقافي قد بدأ، حتى لو بشكل متدرج، وأن انخراط المثقفين الحقيقيين في النقاشات العامة هو شرط أساسي لتحول أي مرحلة سياسية إلى حالة حضارية.

من بين الحضور، تحدّث الكاتب والناقد المسرحي وعضو اتحاد الكتاب العرب سامر منصور، مؤكداً أهمية هذه الندوة كونها لم تكتف بإلقاء الضوء على حقبة مضت، بل فتحت باب المراجعة النقدية، وطرحت إدانة واضحة لما وصفه بـ”المثقفين المكوعين والرماديين”، داعياً إلى محاسبة من ساهموا بالتبرير أو التلميع للطغاة، لا بصوت الخارج، بل من داخل المنابر الفكرية.

كما علّق الباحث والكاتب بلال الحسواني قائلاً إن “المحاضرة كانت غنية بالأفكار ومكثفة، وأن الدكتور اللاذقاني تحدث بعفوية ومنهجية معاً، ولامس جراح الغربة التي يعانيها المثقف الحقيقي، والتي يفرضها النظام المستبد على كل مرجعية ثقافية أو دينية أو سياسية”.

وأشار الحسواني في مداخلته إلى آراء فلسفية حول دور المثقف، منها أن “مهمة الأديب هي إزعاج السلطة ومراقبتها كي لا تتحول إلى كيان مختزل يسعى فقط للحفاظ على المنصب والهيمنة”.

بهذه الروح الجدلية، ختمت الندوة التي بدت وكأنها بداية لمرحلة جديدة من التفكير النقدي داخل دمشق، عنوانها مواجهة الذات، ومساءلة الماضي، والتأسيس لمستقبل ثقافي أكثر شفافية ومصداقية.

شارك