المواجهة الأمنية المستمرة لدمشق مع “ميليشيات الظل” الإيرانية

شارك

ضياء قدور

رغم سقوط نظام بشار الأسد سياسياً وعسكرياً قبل أكثر من أربعة أشهر، فإن الحكومة السورية الجديدة ما تزال تخوض صراعاً مفتوحاً مع بقايا أجهزة النظام الأمنية والعسكرية، ومع شبكات التسلل الإيراني التي أعادت تشكيل نفسها في صيغة “ميليشيات ظلّ”، تتخفى داخل المدن والمناطق الحدودية، وتستخدم أساليب الحرب غير المتكافئة لإرباك عملية الانتقال السياسي وبناء مؤسسات الدولة الجديدة.

تثبت الوقائع الميدانية والتقارير الأمنية والمصادر الإخبارية، أن هذه المواجهة ليست هامشية أو ظرفية، بل تتسم بطابع أمني واستخباراتي معقد وتشكل خطّ تماس بين الدولة الوليدة وقوى إقليمية تحاول استعادة نفوذها وإعادة تموضعها، أو إدامة الفوضى.

وعلى امتداد أكثر من أربع أشهر بعد سقوط، لم تتوقف أخبار الكمائن والمداهمات الأمنية في مناطق دير الزور وحمص وريف دمشق واللاذقية ودرعا. لكنّ المتأمل في تفاصيل هذه العمليات، التي تنفذها أجهزة الحكومة السورية الجديدة، لا يلبث أن يكتشف نمطًا متكرراًً: تفكيك شبكات تتبع النظام السابق، أو ترتبط عضوياً بميليشيات إيران، وفي مقدمتها الحرس الثوري وحزب الله.

من دير الزور إلى بيت جن، ومن القصير إلى صبيخان، تُطارد هذه الأجهزة الأمنية شبكات تهريب، وضباطاً سابقين، وخلايا مرتبطة بالفرقة الرابعة، وعملاء للمليشيات الإيرانية، وكأنها تفتح ملفات المرحلة “الأسدية-الإيرانية” .

من ميدان المعركة إلى التسلل والفوضى: إيران تغيّر أدواتها بعد سقوط الأسد

مع انهيار نظام الأسد قبل أكثر من أربعة أشهر، بدا للبعض أن المواجهة مع الميليشيات المدعومة من إيران قد وصلت إلى نهايتها. فمع زوال الغطاء الرسمي الذي وفّره نظام الأسد، توقّع مراقبون أن تنكفئ شبكات “فيلق القدس” و”الحرس الثوري” وتغادر البلاد أو على الأقل تفرمل تحركاتها. غير أن الوقائع الميدانية المتتابعة أثبتت أن إيران لا تزال تخوض معركتها داخل سوريا، ولكن بأدوات جديدة وطابع مختلف.
ففي 21 نيسان/أبريل 2025، أعلنت الحكومة السورية الجديدة عن ضبط شحنة أسلحة إيرانية ضخمة كانت في طريقها إلى محافظة السويداء، وهي منطقة شهدت مؤخراُ نشاطاً أمنياُ متصاعداُ من قبل مجموعات مشبوهة يشتبه بارتباطها بشبكات تسلل إيرانية.

جانب من شحنة اسلحة إيرانية ضخمة تم ضبطها في السهوة بريف درعا

المصادر الأمنية كشفت أن الشحنة احتوت على صواريخ “فجر 1″ و”رعد” الموجّهة سلكيًا، وهي ذخائر معروفة بأنها جزء من الترسانة التكتيكية التي استخدمها فيلق القدس الإيراني سابقاً في سوريا والعراق ولبنان.

وفي 23 من نيسان أيضا استولت قوات الامن العام في ريف حمص على مستودع أسلحة ضخم كان معداً للاستخدام ويبدو انه ايضاً يتبع للميلشيات الإيرانية.

مستودع للاسلحة تم ضبطه في ريف حمص من قبل السلطات السورية

الخطير في هذه العمليات أن الشحنات نُقلت من مخازن خاصة بالحرس الثوري وفيلق القدس في سوريا، يُرجّح أنها لا تزال مجهولة الموقع حتى الآن، مما يدل على وجود شبكات إمداد غير مكتشفة بعد، تعمل بهدوء وتخطط لمرحلة طويلة من “حرب الظل” داخل الأراضي السورية، وليس فقط في مناطق النفوذ القديمة.

المواجهات الأمنية وعمليات التفكيك السورية

في مطلع العام الجاري، أُلقي القبض على محمد صالح حميدي، رئيس التشريفات في مطار دير الزور، وهي خطوة بدت للبعض رمزية، لكنها في الواقع كانت ضربة لواحد من مراكز الاتصال الإيرانية داخل المنطقة الشرقية.
وبعد أيام فقط، أُعلنت سلسلة اعتقالات شملت عبد الكريم الحمادة، أحد المقربين من ماهر الأسد، إلى جانب عشرات الضباط والعناصر الذين سبق أن خدموا في أجهزة أمنية أو ميليشيات مقربة من طهران، مثل الحرس الثوري والفرقة الرابعة. اللافت أن هذه الاعتقالات لا تأتي من فراغ، بل تعتمد على “قوائم سوداء” يبدو أن الحكومة الجديدة أعدّتها سلفاً، في إطار عملية طويلة النفس لتفكيك ما تبقّى من “دولة الأسد العميقة” والميلشيات الايرانية.

وفي موازاة العمليات الأمنية التي تنفذها الحكومة السورية الجديدة، تعرضت القوات الحكومية وجهاز “الأمن العام” التابع لها لسلسلة من الهجمات المنظمة، نفذتها مجموعات مرتبطة بما يُعرف بـ”جبهة المقاومة الشعبية السورية”، وهي تشكيل غامض يعتقد أنه يعمل كواجهة أمنية للنفوذ الإيراني في سوريا.

وفي اللاذقية، استُهدفت دوريات تابعة لـ”الأمن العام” بعبوات ناسفة وهجمات بالأسلحة الرشاشة، ما أدى إلى مقتل عناصر وإصابة آخرين. وفي حادثة نوعية، تم اغتيال رئيس أحد المخافر الأمنية التابعة لـ”الأمن العام” في الشيخ مسكين (الصفدي)، في عملية تبنتها صفحات مقربة من “جبهة المقاومة الشعبية”. وتزامنت هذه العمليات مع تصاعد في خطاب إعلامي يحرض على دمشق ويتهمها بـ”العمالة لأعداء المقاومة”، في سياق حملة تحريضية منسقة عبر منصات محسوبة على الحرس الثوري الإيراني.

ويعود تشكيل جبهة المقاومة الشعبية السورية إلى سبتمبر الماضي أي قبل سقوط النظام، لكن اللافت في خطاب هذه الجماعة، هو تهنئتهم للقيادة الإيرانية في ذكرى الثورة الإيرانية عبر بيان باللغة الفارسية، مما يعزز الشكوك حول ولاؤهم الصريح لطهران، وتبعيتهم لها.

وخلال أشهر قليلة فقط، أعلنت الحكومة الجديدة عن تفكيك شبكة تهريب أسلحة في الزبداني، وضبط مخازن ذخيرة قرب بيت جن، وضبط طائرات مسيرة انتحارية في القرداحة بريف اللاذقية، ومصادرة قوافل إمداد كانت في طريقها إلى حزب الله في لبنان.

هذه العمليات، التي تتم أحيانًاً دون إعلان، تشير إلى حرب استخباراتية صامتة تدور على خطوط الإمداد القديمة، وهي الحرب التي قد تحدد مصير النفوذ الإيراني داخل سوريا في المرحلة المقبلة.
وتشير القراءة العامة لهذه الأحداث إلى أن الحكومة السورية الجديدة تُعيد تشكيل العمق الأمني والسيادي للدولة، وهي تفكك تدريجياً الشبكات الإيرانية التي تجذّرت خلال العقد الماضي.

هذه الهجمات لا يمكن فصلها عن السياق الأكبر للصراع الاستخباراتي الجاري في سوريا، إذ تشير إلى استراتيجية مضادة تقودها شبكات مرتبطة بإيران، تهدف إلى زعزعة الاستقرار الأمني في المناطق المحررة، وتعطيل مشروع بناء أجهزة أمن وطنية مستقلة.

إيران تُلوّح من بعيد: رسائل تهديد مبطّنة في تصريحات عراقجي بشأن سوريا

أثارت التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي حول الوضع في سوريا سلسلة من التأويلات حول الموقف الإيراني الفعلي من الحكومة السورية الجديدة، لا سيما في ظل تحوّلات ما بعد سقوط نظام الأسد وخروج طهران عسكرياً من الساحة السورية.

عراقجي قال صراحة: “ليس لدينا أي تفاعل أو اتصالات مع الحكومة السورية الحالية. نحن لسنا في عجلة من أمرنا للقيام بذلك”، قبل أن يُتبِع ذلك برسالة غير مباشرة محمّلة بالمعنى: “لقد كنا حاضرين وتعاونا مع الحكومة القائمة في سوريا لفترة طويلة… ونعرف كيف نساعد في إحلال السلام في سوريا”.

ولا يمكن قراءة هذا التصريح بمعزل عن السياق الجديد للصراع، والذي تحوّل إلى معركة استخباراتية وأمنية مركّبة تخوضها الحكومة الجديدة ضد ما تبقّى من شبكات النظام السابق والميليشيات الإيرانية. فعندما يشير عراقجي إلى امتلاك إيران أدوات “تثبيت السلام”، فهو يُلوّح ضمناً بامتلاك أدوات الفوضى أيضاً، ويُلمّح إلى أن الاستقرار في سوريا لن يكون ممكنناً دون التنسيق مع طهران. إنها رسالة تهديد ناعمة، تخاطب دمشق والداعمين الإقليميين والدوليين في آنٍ معاً.

في ذات الوقت، حاول عراقجي في تصريحاته أن يُقدّم صورة مموّهة لحجم التورط الإيراني في سوريا، حيث قال: “لقد حضرنا بطلب من الحكومة السورية آنذاك، وكانت جهودنا دائمًا تستند إلى احترام سيادة سوريا”، في محاولة لتبرئة طهران من أي مسؤولية عن الكارثة السورية، والتنصّل من دورها في تغذية الصراع، بل والترويج لنفسها كفاعل محايد يسعى للسلام.

لكن الرسائل الإيرانية المتعددة الطبقات تكشف في حقيقتها عن مأزق مزدوج: من جهة تسعى إيران إلى العودة إلى سوريا عبر القنوات الدبلوماسية بعد تقهقرها الأمني، ومن جهة أخرى تُلوّح بأن تجاهلها سيُبقي الساحة السورية عرضة لمزيد من التعقيد. وفي الحالتين، يبدو أن طهران لم تتقبل بعد خسارتها الفعلية لموقعها في سوريا، وهي تعمل اليوم على استثماره سياسياً بوسائل ناعمة بعد أن فُرض عليها الخروج عسكرياً.

شارك