جسر – دمشق (هبة الشوباش)
في مشهد بات مألوفًا في شوارع دمشق، تنتشر بائعات الخبز بالقرب من الأفران ليلاً ونهاراً، في محاولة لكسب لقمة العيش في ظل واقع اقتصادي واجتماعي شديد الصعوبة. هذه الظاهرة، التي يزداد انتشارها يوماً بعد يوم، تعكس أبعاداً أعمق من مجرد بيع رغيف الخبز، إذ تُظهر معاناة نساء يُجبرن على خوض مهن غير محمية قانونياً، محفوفة بالمخاطر، بسبب الحاجة المُلحة والظروف المعيشية القاسية.
إحدى البائعات عبّرت عن حالها وحال رفيقاتها بالقول: “نحن النساء نعمل في بيع الخبز لإعالة أسرنا، نتحمل الوقوف ساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة أو في البرد القارس، ونتعرض أحياناً لمضايقات من بعض المارة، ورغم ذلك نواصل العمل لتأمين قوت أولادنا، حتى إن كنا نضطر لبيع الربطة بسعر أعلى من السعر الرسمي لتغطية التكاليف”.
ويعود انتشار هذه الظاهرة إلى عدة أسباب، أبرزها الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد، حيث أدى تدهور الأوضاع المعيشية إلى ارتفاع معدلات الفقر، ودفع العديد من النساء، خاصة الأرامل والمعيلات، للبحث عن مصدر دخل، ولو من خلال أعمال غير رسمية ومكشوفة على الاستغلال.
ومن بين الدوافع الأخرى صعوبة الحصول على الخبز نتيجة الازدحام الشديد أمام الأفران، ما يجعل شراءه من البائعات، رغم ارتفاع سعره، خياراً مفضّلاً لكثير من المواطنين لتوفير الوقت والجهد.
ورغم أن بيع الخبز خارج الأفران الرسمية غير قانوني، إلا أن هذه الظاهرة تجري على مرأى السلطات دون تدخل يُذكر، في ظل غياب الرقابة الرسمية.
وتشير مصادر خاصة إلى وجود اتفاقات غير معلنة بين بعض أصحاب الأفران والبائعات، حيث يتم بيع كميات كبيرة من الخبز لهن بشكل مباشر، بينما يُجبر المواطنون على الانتظار لساعات طويلة للحصول على حصصهم المحددة.
وبالمزيد من التقصي، يتضح أن العديد من العاملات في بيع الخبز هن من الأرامل أو الأمهات اللواتي يُعِلن أسراً بأكملها، ولم يقتصر العمل على النساء فقط، بل امتد إلى الأطفال، حيث شوهد أطفال تتراوح أعمارهم بين ست وأربع عشرة سنة يشاركون أمهاتهم في هذه المهنة القاسية، ما يفتح الباب أمام استغلال الطفولة في سوق غير منظم.
وتُظهر هذه الظاهرة تأثيرات اجتماعية واقتصادية خطيرة، منها تعميق الفجوة الاقتصادية وتكريس السوق السوداء، إذ تباع ربطة الخبز في الشارع بأسعار تتراوح بين ستة إلى سبعة آلاف ليرة سورية، مقارنةً بسعرها الرسمي البالغ أربعة آلاف، ما يزيد الأعباء على المواطنين ويفاقم معاناتهم اليومية.
إلى جانب ذلك، فإن التحرش والمضايقات التي تتعرض لها النساء خلال عملهن، في ظل غياب الحماية القانونية، تجعلهن عرضة للاستغلال والإهانة، فضلًا عن النظرة السلبية من قبل المجتمع، والتي تؤثر سلبًا على احترامهن لذواتهن وتزيد من الضغط النفسي عليهن.
إن استمرار ظاهرة بائعات الخبز في شوارع دمشق دون أي تدخل حكومي فعال يعكس ضعفاً في السياسات الاجتماعية والرقابية، ويستدعي البحث عن حلول جذرية تبدأ من تحسين آلية توزيع الخبز، مروراً بتوفير فرص عمل بديلة للنساء، وانتهاءً بـ تعزيز الحماية القانونية لهن، بما يضمن كرامتهن وحقهن في العمل الآمن واللائق.