جسر – عبد الله الحمد
في الوقت الذي تولّت فيه الحكومة السورية الجديدة مسؤولياتها بعد سنوات طويلة من التدهور المؤسساتي والتخبط الإداري، بدا أن ملف الإصلاح الإداري سيكون في طليعة الأولويات، كونه يشكل الأساس في بناء مؤسسات فاعلة، وتقديم خدمات عامة جديرة بثقة المواطن، لكن هذه المهمة ليست سهلة في ظل الإرث الثقيل الذي خلّفته الحكومات السابقة، من فساد، وتكلس وظيفي، وغياب شبه تام للكفاءات والخبرات.
ويبدو أن الحكومة الحالية أمام امتحان صعب يتطلب قرارات جذرية، وخططاً مدروسة، وليس مجرد شعارات.
بعد سقوط النظام البائد، أعلنت حكومة “الإنقاذ” التي كانت في إدلب وتولت قيادة البلاد في المرحلة الأولية بعد سقوط النظام، البدء بإصلاحات إدارية وصفتها بـ”الجذرية”، وقد شملت هذه الإجراءات تسريح آلاف الموظفين، ومنح آخرين إجازات مدفوعة، دون أن تتضح معايير هذه القرارات أو الجهات التي تقف خلف تقييم الأداء.
واللافت في هذه المرحلة، كما يشير مراقبون، أن الخطوات التي اتخذت لم تبنَ على قواعد واضحة للإصلاح المؤسسي، بل غلبت عليها العشوائية وغياب الشفافية، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصير مؤسسات الدولة ومستقبل العاملين فيها.
تكلس إداري وهيمنة الولاء على الكفاءة
منذ عام 2012، ومع تصاعد الأزمة السورية، بدأ التراجع واضحاً في كفاءة جهاز الدولة، حيث انخفضت رواتب الموظفين إلى مستويات متدنية، وازدادت هجرة العقول والكفاءات، مما تسبب في ضعف كبير داخل قيادات المؤسسات العامة.
وبحسب تقرير صادر عن المكتب المركزي للإحصاء لعام 2023، فإن عدد الموظفين في مؤسسات الدولة (باستثناء الدفاع والرئاسة) بلغ 911,955 موظفاً، لكن ما نسبته 30.5% فقط يحملون شهادات جامعية فما فوق، في إشارة واضحة إلى الاختلال في بناء الجهاز الإداري واعتماده على شهادات أدنى أو حتى على معايير الولاء الأمني بدلاً من الكفاءة.
ويؤكد الإعلامي الاقتصادي همام طبلية في حديثه لـ”جسر” أن “معظم مفاصل الدولة تعاني من تكلس إداري، وبعض المؤسسات بحاجة إلى ثورة إدارية حقيقية لإمكانية إحداث التغيير”.
ودعا طبلية إلى “إطلاق برامج تدريبية عالية المستوى، تبدأ من القادة الإداريين وتنتقل بالتدرج نحو المستويات الأدنى، لتُحدث فرقاً ملموساً”.
أربعمئة ألف موظف بلا جدوى!
في تطور صادم، أعلن وزير المالية الأسبق محمد أبازيد عن وجود ما يقارب 400 ألف موظف غير فاعلين في مؤسساتهم، وأشار إلى إمكانية استبعادهم من الخدمة.
هذه التصريحات جاءت تبريراً لإجراءات قاسية اتخذتها الحكومة كالفصل والإجازات بلا أجر والتسريح الإجباري، لكن هذه الخطوات أثارت موجة استياء في الشارع السوري، لا سيما في ظل غياب فرص العمل البديلة، وانهيار الوضع المعيشي.
وترى الصحفية والخبيرة الاقتصادية كوثر صالح أن “موظفي القطاع العام يمثلون شريحة هامة لا يمكن تجاهلها، وأن إصلاح هذه الشريحة وإعادة تفعيلها مرتبط بعدة محددات وليس الاستبعاد أفضلها”.
واعتبرت أن “تدهور الخدمات في القطاع العام يعود لعدة أسباب ليس من ضمنها العامل البشري والإصلاح الإداري فقط، والمطلوب اليوم بالتوازي مع الإصلاح الإداري النظر في آلية الأجور للعاملين في القطاع العام، ما يشكل حافزاً لاستقطاب خبرات جديدة وخلق تنافس داخل القطاع بالذات إذا وضعت معايير صريحة للترفع الإداري”.
أسس الإصلاح الفعّال: ما الذي يجب فعله؟
يرى خبراء أن أي مشروع إصلاح إداري يجب أن يقوم على خطة استراتيجية واضحة، تشمل تطوير الأداء وتحسين بيئة العمل والاعتماد على التكنولوجيا الحديثة في الإدارة والرقابة.
ويؤكد الإعلامي همام طبلية على أهمية الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال، إلى جانب إشراك الكفاءات الإدارية السابقة في رسم السياسات الجديدة، وتفعيل معايير تقييم أداء موضوعية للعاملين في القطاع العام.
كما يشدد طبلية على أن “الإصلاح لن ينجح دون مكافحة الفساد، وإيجاد هيكلية إدارية تعطي الموظف حقوقه بوضوح، مقابل واجبات محددة، بما يضمن المساءلة والإنتاجية”.
المرجعية الغائبة.. كيف يمكن الإصلاح؟
في ظل غياب جهة واضحة تقود مسار الإصلاح، تدعو الصحفية كوثر صالح إلى “تشكيل هيئة حكومية مستقلة مهمتها دراسة أوضاع القطاع العام، ووضع معايير موحدة للأجور والحوافز والهيكلة الإدارية”.
وترى صالح أن هذه الهيئة “يجب أن تتمتع بصلاحيات تنفيذية واسعة، لا تقتصر على الجانب النظري أو الاستشاري، بل تكون قادرة على تنفيذ القرارات ومراقبة تطبيقها في جميع المؤسسات، لتصبح مرجعاً حقيقياً لإصلاح الإدارة العامة في سوريا”.
يقف ملف الإصلاح الإداري في سوريا اليوم على مفترق طرق، بين الفرص الممكنة والتحديات العميقة، فنجاح هذا الملف يعني استعادة الثقة في الدولة، وتحسين حياة ملايين الموظفين والمواطنين، أما الفشل، فسيعني مزيداً من التدهور والفراغ المؤسسي، ويطالب معظم السوريين اليوم بقيادات كفوءة تقود هذا التغيير بشجاعة ومسؤولية، بعيداً عن المحاصصة والولاءات الضيقة.