إدلب العالقة بين الحرب واتفاقات السياسة الغامضة

عقيل حسين

جسر:مقالات:

لا يمكن التكهن إطلاقاً بتطورات الأوضاع في إدلب بناء على معطيات لحظية مهما بدت هذه المعطيات قوية، حتى إن كانت بحجم الضربة الجوية التي استهدفت معسكراً تدريبياً لفيلق الشام على الحدود التركية بريف إدلب يوم الاثنين، وراح ضحيتها العشرات من عناصر الفصيل.

ورغم محاولة روسيا التملص من هذه الضربة وادعاء إعلامها أن طيران النظام هو من نفذها، إلا أن أحداً لا يمكن أن يجادل بأن سلاح الجو الروسي هو الوحيد القادر على القيام بضربة من هذا النوع. وعلى أي حال فإن موسكو لم تكن جدية في التهرب من مسؤولية هذا الخرق الخطير لاتفاق الهدنة، وبالطبع فإن الأتراك ليسوا بحاجة لنفي روسيا أو تبنيها الضربة من خلال وسائل الإعلام، بل يعرفون تماماً كل تفاصيل هذا الهجوم.

وعند الحديث عن هذه التفاصيل، فإن الأمر لا يقتصر بطبيعة الحال على مجرد تبعية الطائرة ونوعيتها وكمية المتفجرات التي استخدمتها والمدرج الذي انطلقت منه.. الخ، بل يتعلق قبل ذلك بالرسائل السياسية التي أرادت موسكو إيصالها إلى أنقرة من خلال هذه الضربة، إذ لا يمكن إيجاد عنوان آخر يمكن أن تكون هذه الرسالة موجهة إليه، فلا الفصائل الموجودة في إدلب يمكن أن تكون نداً لروسيا، ولا هي صاحبة القول الفصل في رفض أو قبول اتفاقات أو تفاهمات تتعلق بإدلب أو غيرها من المناطق داخل وخارج سوريا.

سيربط الكثيرون، وهم على حق، بين هذه الضربة المؤلمة وبين ملفي ليبيا وأذربيجان، فهناك تحقق تركيا مع حلفائها نتائج إيجابية على حساب حلفاء الروس، وهو أمر لا يمكن أن تسكت عنه موسكو بالتأكيد إلا إذا كان هناك مقابل مرضٍ بالنسبة لها، وهو في الحالة السورية لا يقل عن تفكيك جميع فصائل المعارضة والتخلص منها تمهيداً لحل سياسي يعيد إنتاج النظام وسيطرته على كامل الأرض السورية بشكل أو بآخر.

بالمقابل، ومن حيث المبدأ طبعاً، فإن تركيا لا يمكن أن تقبل بخروج حلفائها من المعارضة السياسية والعسكرية من الحسابات بعد كل الفواتير الغالية التي دفعتها في الحرب السورية، ليس فقط مادياً بل وبشرياً أيضاً، خاصة بعد انخراط قوات جيشها في القتال شمال شرق البلاد وفي إدلب، ناهيك عن اعتبارات أمنها القومي المرتبطة بالدرجة الأولى بالحفاظ على حدودها الجنوبية بعيدة عن متناول خصومها ما أمكن، وهنا لا يقتصر الأمر على قوات سوريا الديمقراطية، بل وينسحب كذلك على النظام الذي لن يكون مريحاً بالنسبة لأنقرة عودته إلى التماس مع إقليم إسكندرونة.

لكن هل تستطيع تركيا تحقيق النتائج التي تبحث عنها على الأرض السورية في ظل اختلال موازين القوة بين حلفائها وبين النظام من جهة، وبينها وبين روسيا من جهة أخرى؟

يبدو الجواب بديهياً “لا” ولذا فإن أنقرة تعمد باستمرار إلى تعزيز حضورها العسكري في إدلب الذي بات يوجد فيها حالياً نحو ثلاثين ألفاً من الجيش التركي، وهي رغم أن الكثيرين اعتبروا

انسحابها من نقاط المراقبة التي باتت في مناطق خاضعة لسيطرة النظام خسارة جديدة لها تمهد ربما لانسحابات أخرى، إلا أنها تبدو شديدة الاهتمام بالمناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة، بدليل التعزيزات المستمرة التي ما فتأت ترسلها إلى هناك.

كل ما سبق يبدو واضحاً للجميع، لكن ما هو غير واضح على الإطلاق طبيعة المفاوضات الروسية التركية التي كان آخرها زيارة نائب وزير الخارجية التركي إلى موسكو، ومضامين الاتفاقات أو التفاهمات بين الجانبين حول إدلب وغير إدلب، ولذا تبقى كل المعطيات المذكورة أعلاه تقديرات لا بد منها طبعاً، لكنها ستكون بدون وزن فيما لو كان هناك أي اتفاق جديد بين الدولتين لا يتكشف إلا بعد مرور وقت كما جرت العادة.

وعليه لا يمكننا الحديث عن المؤشرات المتصاعدة في إدلب باعتبارها نذر حرب أو مقدمات اتفاق سلام، بقدر ما يجب أن ننظر إليها باعتبارها أدوات ضغط ووسائل تفاوض عنيفة على هامش طاولات النقاش السياسي بين الدولتين، وهو ما علمتنا إياه تجارب الأعوام الثلاثة الماضية منذ إطلاق مسار أستانا برعايتهما.

لقد غدت الأرض السورية صندوق بريد سياسي بين الدول، وتحول الدم السوري إلى حبر يكتب به المتنافسون الأقوياء الرسائل التي يريدون تبادلها، بينما بات السوريون عاجزين حتى عن فك شيفرات حروف ورموز هذه الرسائل، وأقصى طموحاتهم هو محاولة فهم كل ذلك من خلال التقدير والتأويل لا أكثر.

قد يعجبك ايضا