اضطرابات أميركا: من أين وإلى أين؟

وليد فارس* - الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية

ما يحصل الآن ليس جديداً والولايات المتحدة شهدت في عصرها الحديث أزمات مماثلة وتظاهرات عنيفة

محتجون أمام البيت اﻷبيض أول أمس اﻷحد

جسر: صحافة:

محتجون أمام البيت اﻷبيض أول أمس اﻷحد

ينظر العالم أجمع إلى الأحداث التي يشاهدها عبر شاشات التلفزة أمام البيت الأبيض وفي شوارع العاصمة واشنطن وعشرات المدن الأميركية، ويبدي قلقه من تطور الأحداث داخل أميركا ما يؤدي إلى أزمة في السياسات الخارجية الدولية، ويوقد الأزمات العالمية في صيف لاهب، وبالفعل فإن ارتداد أميركا إلى وضعها الداخلي ستكون له نتائج كبيرة على صعيد الأزمات القائمة إن كان في الشرق الأوسط أو أفريقيا وآسيا، بالتالي فإن العالم منقسم لقسمين، مَن هو قلق من هذه الأزمات لأنها ستمنع واشنطن عن مساعدة عدد من الدول هي بحاجة للدعم الأميركي، وأيضاً تفرح جزءاً آخر يريد لواشنطن أن تتراجع من مختلف الساحات العالمية إلى داخلها المضطرب كروسيا والصين وإيران والجماعات المتطرفة وفنزويلا، والسؤال الكبير ماذا يحصل فعلاً في أميركا وماذا ينتظر العالم الخارجي؟

قبل فهم الحالة الوضعية للأزمة الداخلية ومستقبلها، يجب إدراك حقيقة الوقائع التي لا يرى منها المشاهد أو المستمع إلا القليل القليل، وعبر إعلام مؤدلج وغير قادر على نقل المعلومات والوقائع التي لا تراها الكاميرات.

إن ما يحصل الآن في الولايات المتحدة الأميركية ليس جديداً، فأميركا في عصرها الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، رأت أزمات مماثلة وتظاهرات عنيفة، لا سيما في الستينيات مع حركة المساواة للأفارقة الأميركيين، وبعدها حركة مواجهة الحرب في فيتنام، وتجددت هذه التحركات الشعبية والمدنية في بداية التسعينيات مع مؤتمر سياتل الذي انبثق منه في ما بعد مجموعة “أنتيفا” وحركات وتظاهرات مختلفة تحت إدارتي بوش وأوباما وأحداث عنصرية متعددة.

ما يحصل الآن ليس بسبب حادثة الوفاة المأساوية لجورج فلويد وإنما مسيرة طويلة، وما يحدث الآن هو الأكثر تأثيراً بسبب عوامل أخرى، ومجموع المشاركين في هذه التظاهرات العنيفة في طول البلاد وعرضها يتراوح بين 30 ألفاً إلى 40 ألفاً في بلد يبلغ عدد سكانه 340 مليوناً، صحيح أن المجموعات المتحركة محدودة لكنها ناشطة وثورية، وهي بحسب المصادر الحكومية منظمة إلى أعلى الحدود وممولة داخلياً وخارجياً.

حركات المحتجين التي نراها تنقسم إلى ثلاث مجموعات، الأولى هي من بدأت الاحتجاج بعد وفاة السيد فلويد، وتتكون من المتظاهرين غير العنفيين، وبالمناسبة، فإن الحادث الذي ذهب ضحيته الشاب ذو الأصول الأفريقية يتكرر أسبوعياً، فالعنف المدني موجود في مدن كبرى عدة، وشيكاغو أبسط مثال حيث يلقى العشرات من الشبان حتفهم في نهاية كل أسبوع بسبب إطلاق النار، ولكن أهمية ما حصل، مطلع الأسبوع الحالي، أن الحادثة كانت مصورة على شاشات الهاتف، والمحتجين على وفاته على يد شرطي أبيض يمثلون رد الفعل الطبيعي لمواطنين أميركيين غاضبين على هذه الأنواع من الحوادث ويربطونها بحالة مجتمعية عنصرية بين الشرطة وشبان الشوارع.

المجموعة الثانية الأكثر تنظيماً ومركزية وهي مسؤولة عما هو مُعرّف أكاديمياً بالعمل المباشر (Action Directe)، وهم أعضاء ‘أنتيفا” وأقصى اليسار وعقيدتهم قريبة من القوى الفوضوية، ومعروفون بدقة تحركاتهم وسيطرتهم على خططهم لمواجهة السلطة، ويعتبرون أن حربهم ضد النظام الرأسمالي والسلطة التي تدعمه، وموجهون من قبل أساتذة جامعات ومثقفين، وممولون من أثرياء كبار (يقولون إن جورج سوروس خلفهم)، ويقول بعض المحللين إن هذه الحركة وحركات مماثلة “كحياة السود تهم” و”احتلوا وول ستريت” تخرج من أقصى اليسار المنظم الذي يمتلك وجوداً داخل الحزب الديمقراطي، غير أنه لا يؤثر في القرار المركزي للحزب، وكان الرئيس السابق أوباما وبعض رفاقه في القيادة تعاملوا مع هذه الأوساط (القس تيري وايت أبرزهم)  في الماضي على أنها منظمات اجتماعية.

أما المكون الثالث، فهم اللوترزLooters  أي “الناهبون”، وهؤلاء يستفيدون من أي تحرك اجتماعي لينقضوا على المحال التجارية ويقومون بالسرقات، وهم لا علاقة لهم بالفريق الأول ولا بحركة “أنتيفا”، لذلك يصعب على المشاهد الخارجي والعربي التمييز بين المجموعات الثلاث لأنهم يخرجون في الوقت نفسه، ونحن نرى المتظاهرين يقفون بوجه الشرطة، ومجموعات “أنتيفا” تحاول السيطرة على الشوارع وتضرم النيران، وعصابات النهب التي تجتاح المحلات، وأفرادها لا يقتربون من المراكز الفيدرالية، فلا مصلحة لهم بذلك.

وعندما بدأت هذه التحركات، كان هناك رد فعل وقلق من قبل المجتمع ولكن مع احترام أهدافها الأساسية، غير أنه وبعد انقضاء أيام بدأت القيادات السياسية والرأي العام تخشى التطورات، لا سيما بعد مشاهد إضرام النار في المؤسسات وكسر الأمن في المدن الكبرى، ومن المفارقة أن الحكام بمن فيهم الديمقراطيون المعارضون لترمب كانوا الأكثر صرامة وحزماً حيال من سموهم الإرهابيين المحليين وطالبوا بتدخل الحرس الوطني، وحاكم مينيسوتا كان أول من طلب مساعدة البنتاغون بشكل مباشر لتبادل المعلومات، خصوصاً حول حركة “أنتيفا”.

وهدف هذه الحركة أساساً هو خلق ضغط كبير على السلطة الفيدرالية لتقديم تنازلات كبيرة، وربما يحلم قادة هذه الحركة في وصول الاحتجاجات إلى مستوى يرغم ترمب على ترك البيت الأبيض لضمان حمايته ما يهز السلطة الفيدرالية، ولكن هذا أمر صعب لأن السلطة ستقوم بأي شيء للحفاظ على مؤسساتها، بينما في الولايات، فإن الحكام ولو كانوا معارضين لترمب فهم أكثر حزماً ضدّ ما يجري لسبب بسيط وهو إعادة انتخابهم لأن إضرام النار في المؤسسات سيقفل الأعمال الاقتصادية وسيؤلب الرأي العام ضدهم أكثر من السلطة الفيدرالية.

ويتحرك الرئيس الأميركي على محورين، الأول طلبه من المدعي العام بيل بار القيام بإجراءات قضائية سريعة ضدّ المرتكبين ليقفل هذه الثغرة، ومن ناحية ثانية يحاول حشر حكام الولايات للدفاع عن مؤسساتهم فيضغط بواسطة التغريدات ويضع الحرس الوطني بتصرفهم وكأنه يدفعهم ليكونوا خط الدفاع الأول لحماية المواطنين.

“أنتيفا” وبتحرك ذكي، تجنبت الدخول في مناطق أهلية، وركزت على المراكز الأساسية للمدن والأماكن الحكومية لأنها لا تريد أن تؤلب الرأي العام ضدها ما يعطي ترمب ما يحتاجه للدعوة إلى التعبئة العامة.

والرئيس الأميركي يواجه هذا التنظيم بما يسمى “المسافة التكتيكية”، أي الضغط على الحكام للتحرك وتوسيع رقعة مواجهة الحركة، أي إبعادها عن المراكز الفيدرالية وإبقاؤها في مراكز لا مصلحة لها فيها، أي بإمكانها حشد أنصارها في أماكن لا تسهم في تغيير موازين القوى.

في الأيام الأولى رأينا تقدماً لـ “أنتيفا” ولكن الأوكسجين سيتقلص مع انتشار الدولة الهادئ، لأن قدرات السلطة الفيدرالية هائلة وبإمكانها نشر الجيش في جميع المدن، وهذا ما لن يقوم به ترمب لأنه قد يعطي قوة معنوية لهذه الحركة ويخيف الرأي العام المؤيد له، فمن ناحية يريد مواجهة هذا التحرك ولا يريد خسارة أصوات الوسط.

القادة الديمقراطيون هم أيضاً يعانون من تحدّ، فمن ناحية بإمكانهم الوقوف مع المحتجين كما ربما يكون موقف جو بادين وأوباما، ويستفيدون من التغطية الإعلامية كما استفاد ترمب في أزمة كورونا، ولكنهم يعلمون أن الطبقة الوسطى تخاف على المصالح الاقتصادية ويهمها أمرين، أولاً أن يكون هناك شك مصرفي في نهاية الشهر يساعدها على تدبير أمورها الحياتية قبل موسم العودة إلى المدارس. والنقطة الثانية، الأمن المحيط بهم، فإذا تمكن ترمب من العودة بالاقتصاد وتوطيد الأمن للطبقة الوسطى سيحظى بأصوات عدد كبير من ناخبيها، أما إذا انفلت الوضع الأمني ولم يتمكن من مجابهتهم إلا باستخدام القوة فالأمور ستختلف.

وعلى الصعيد الدولي، نرى أن جزءاً كبيراً من الإعلام المناهض لترمب والذي تحركه روسيا والصين وإيران والإخوان وقطر، يحاول تصوير الرئيس الأميركي على أنه رئيس ضعيف ويرسم صورة انهيار أميركا من الداخل، بالتالي فإن القلق ينتشر دولياً بسبب اهتزاز صورة أميركا.

الأزمة مرشحة لتتواصل لأيام وأسابيع، ولكن لا بدّ من أن تنتهي، فكلا الطرفين لا يمكنهما الدخول في مواجهة طويلة جداً، فلا السلطة الفيدرالية والحكام يسمحون بانهيار الاقتصاد، بالتالي لا بدّ من توقيت معين لإنهائها، ولا “أنتيفا” وحلفاؤها بإمكانهم الاستمرار حتى النهاية لأنهم سيخسرون الرأي العام، إذاً، نحن نعيش في وسط الأزمة وسيكون لنا تحليل آخر عندما تصل الأزمة إلى نهايتها.

___________________________________________________________________________________

*نشر في اندبندنت عربية الثلاثاء 2 حزيران/يونيو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا

قد يعجبك ايضا