الإرباك الشيعي !

عراقيون بينهم رجال دين شيعة يصلون على ضحايا المظاهرات
عراقيون بينهم رجال دين شيعة يصلون على ضحايا المظاهرات

عقيل حسين:

مجموعة معممين شيعة يتقدمون مظاهرة مدينة كربلاء العراقية (العاصمة الرمز للشيعة في العالم) وهم يحملون لافتة كبيرة تتضمن عبارات مناهضة لإيران. خلفهم يسير صف من الرجال الكربلائيين وهم يهتفون بشعارات مناهضة لإيران أيضاً، مثلهم مثل مئات أو آلاف الشباب الذين اصطفوا خلفهم وهم يحملون لافتات مشابهة ويهتفون بشعارات مماثلة، ملوحين بأعلام العراق وفي عيونهم بريق جديد يولد للتو.

مشهد مربك حتماً لطهران التي كانت قد أرسلت قبل ساعات فقط (مندوبها السامي) إلى بغداد، قاسم سليماني، الذي استقبله متظاهرو العاصمة ومدن الجنوب (الشيعية) بالهتافات المناوئة والغضب الشديد.

من كان يتصور قبل شهر فقط أن عشرات الآلاف من سكان هذه المدن، التي لطالما اعتبرتها إيران امتداداً بشرياً وجغرافياً لها، سيخرجون بكل هذه الكثافة للمطالبة بالتخلص من هيمنة طهران وتغيير نظام المحاصصة الطائفية الذي تديره وأحال بلد غنياً إلى ركام ؟!

ترتبك طهران، المرتبكة كذلك أمام مشاهد زحف الجمهور اللبناني إلى الساحات للمطالبة بإسقاط الزمر السياسية المتحكمة بالبلاد

ترتبك طهران، المرتبكة كذلك أمام مشاهد زحف الجمهور اللبناني إلى الساحات للمطالبة بإسقاط الزمر السياسية المتحكمة بالبلاد، وقد حمل معه هذه الزحف آلاف الشيعة من سكان الضاحية الجنوبية لبيروت والمدن الأخرى، وهم يشتمون أذرع (الجمهورية الإسلامية) في لبنان ويهتفون للخلاص منهم..!

لكنه مربك قبل ذلك، وربما أكثر من ذلك، بالنسبة لنا نحن السوريين، وبتحديد أكثر، لجمهور الثورة من السوريين، وبتحديد أكثر وأدق، للسوريين السنة الثوار والمعارضين، الذين لم يعرفوا في شيعة البلدين الجارين، لبنان والعراق خلال السنوات الماضية على الأقل، إلا خزانات بشرية لميليشيات ساهمت مع النظام في قتلهم وتهجيرهم وتدمير بلدهم !

مشهد مربك بالفعل أن تجد إيران من اعتبرتهم (أتباعاً مخلصين) يهتفون ضدها ويثورون من أجل الخلاص من هيمنتها والتخلص من أذرعها وميليشياتها ورجالاتها..وأشد للسنة والثوار السوريين أن يشاهدوا هذه الجموع، المصنفة عدوة، وهي تهتف ضد عدوهم ومستعدة للموت، مثل الثوار السوريين أيضاً، من أجل التحرر من القيد الإيراني.

لا يحتاج الأمر منا، ومن إيران على حد سواء، إلا قراءة المشهد بموضوعية، بعيداً عن التصورات المسبقة والتعميم والاختزال..هذه التصورات التي أنتجتها طهران بالدرجة الرئيسية، واستطاعت تعميمها إعلامياً وعملياً منذ أن أطلقت استراتيجية تصدير الثورة، وبدأت بإنشاء قوى وميليشيات عسكرية شيعية، ثم اختزلت الجمهور الشيعي العربي كله في فئة استطاعت استتباعها وبدأت تتصرف على هذا الأساس، ثم جعلت الآخرين من غير الشيعة يقبلون هذه النتيجة ويتصرفون على أساسها أيضاً بناء على وقائع ومعطيات معروفة.

لا يحتاج الأمر سوى تجاوز هذا التصور والقبول بحقيقة الواقع كما هو لفهم ما حدث ويحدث.. الواقع الذي تفجر فجأة في وجوهنا وبدأ يفرض نفسه على الجميع باعتباره الحقيقة الموضوعية التي تقوم على أساس أن ملايين الشيعة لا يمكن اختزالهم في عدة آلاف باعوا نفسهم لإيران، أو صدقوا وعودها عن الدنيا والآخرة، تماماً مثلما لا يمكن اختزال ملايين السنة في عدة آلاف صدقوا وعود داعش عن الدين والدنيا.

على إيران، وعلينا جميعاً، لكي نتجاوز إرباكنا أمام هذه الصور والفيديوهات المدهشة، أن نتقبل حقيقة أن الشيعة مثل السنة، مثل المسيحيين والهندوس واللادينيين، مثل كل البشر الآخرين من كل الطوائف والمذاهب والأديان، يريدون الحياة والكرامة والحرية والديمقراطية والعيش في أوطان حرة مستقلة ودول حضارية يحكمها القانون ويسودها العدل وتقوم على المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات، وأنه لا يمكن الاستمرار في أخذ الجميع رهائن إلى الأبد واحتجازهم في أقفاص من الوهم والخديعة.

على إيران أن تفهم، وعلينا أيضاً كذلك الوعي، أن الشيعة، حتى الإيرانيين ذاتهم، لن يقبلوا بالاستمرار تحت حكم الخوف من البطش والتخويف من الآخر

على إيران أن تفهم، وعلينا أيضاً كذلك الوعي، أن الشيعة، حتى الإيرانيين ذاتهم، لن يقبلوا بالاستمرار تحت حكم الخوف من البطش والتخويف من الآخر، وأنهم لا يريدون بالغالب الأعم أن يكونوا وقود حروب سرمدية، وضحايا سيد ينهبهم ويستعبدهم، وأنهم عند أول فرصة وعند كل فرصة سينتفضون رفضاً للبؤس المفروض عليهم.

علينا كسنّة وعلى إيران وعلى الشيعة، لكي ننجو من هذا الإرباك، أن نفكر خارج صندوق الطائفية الذي أرادوا إقفاله علينا، وأن نفهم أن سكان هذه المنطقة حين انطلقوا بثوراتهم فإنهم يثورون أجل بشريتهم أولاً، بكل ما تتضمنه هذه الطبيعة البشرية من ميل فطري للاستقلال والتحرر، وليس لأنهم شيعة أو سنة، على الأقل في هذا العصر الذي يكاد لم يبق فيه سوى سكان هذه المنطقة خارج العصر.

لن تقبل إيران بالتنازل عن تصوراتها وأوهامها أو لنقل طموحاتها وهيمنتها بسهولة، ولن يكون تعاملها مع العراقيين أو اللبنانين أفضل حالاً من تعاملها مع السوريين قبل ذلك، بل وحتى مع الشعب الإيراني عندما خرج بمظاهراته الضخمة عام ٢٠٠٩، لكن هزيمتها تبدأ حين تعي شعوب المنطقة بذاتها وتتجاوز تصوراتها المسبقة عن بعضها، هذه الذوات والتصورات الموهومة التي صدقناها كأنها الحقيقة، وعندها سنتجاوز كلنا الإرباك الذي أرادوا أن نبقى رهائن له إلى الأبد.

المصدر-تلفزيون سوريا

قد يعجبك ايضا