“البِلْشَة” في الرقة.. بين ضعف المانع الشرعي وانعدام الرادع القانوني وغياب الوازع القبلي

عبد الله جنيد

اقتتال بين عشيرتين، هو أكثر الأنباء تداولًا على وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، ولعل أبرز تلك الاقتتالات بين اثنتين من كبرى عشائر الرَّقة عند دوار النعيم مطلع تموز الماضي.

أسفر الاقتتال عن عشرات الجرحى، لكن ما يدعو للاستغراب دخول عشيرة بأسلحة فردية خفيفة ومتوسطة وقنابل لمدينة الرقة، ومرورهم عبر نقاط تفتيش لقسد،

وتعتمد قسد التي تسيطر على الرقة ومناطق واسعة من شرق الفرات بعد طرد تنظيم داعش منها، على سياسة النأي بالنفس في النزاعات العشائرية، حتى لا تُحسب على أي من أطراف النزاعات، وغالبًا ما تنتج خلافات على العقارات أو قضايا الثَّأر.

فيما تصرّ قسد على وجود أيادٍ خفية تدعم نشوب القتالات العشائرية لزعزعة الأمن والاستقرار وتوجه الاتهامات للنظام السوري وتركيا، ويوافق مراقبون وجهة نظر قسد في دعم بعض الأطراف للنزاعات العشائرية وخاصة النظام السوري الذي يعتبر المستفيد الأكبر، لكنهم يُحمّلون قوات سوريا الديمقراطية مسؤولية فضّ النزاعات ومنع نشوبها.

وعملت جميع الأطراف السورية المتصارعة على إعادة إحياء العشائرية من جديد بعد أن كادت تندثر قبيل الثورة ولكن مع انطلاق شرارة الثورة وتشكيل فصائل مسلحة تحت راية الجيش الحر بدأت العشائر بتنظيم نفسها ضمن فصائل عسكرية على أساسٍ عشائري، وعند سيطرة تنظيم داعش على مناطق واسعة من الجزيرة السورية حارب العشائرية حتى تلاشت في ظل سطوة التنظيم.

ويحاول كل من النظام والمعارضة وقسد كسب الولاءات العشائرية للحصول على دعمها سياسيًا وعسكريًا وتنظيميًا؛ لتنظيم العلاقة بين السلطة الحاكمة والعشيرة، والدليل على ذلك هو وجود شيوخ مختلفين لذات العشائر لدى أطراف النزاع الثلاث في سوريا، وهذا يعتبر شيءً من المنافسة لكسب الولاء المُطلَق، إذ تعتمد قسد على العشائر وتنصيب شيوخ عشائر لتسهيل تواصلها مع المجتمعات في المناطق التي تسيطر عليها والتي يغلب عليها الطابع العشائري.

ويرى محمد السليمان ملا علي رئيس لجنة حل النزاع في الرقة أن المجتمع في الجزيرة السورية عامةً وليس في الرقة فقط تحكمه الثقافة الجاهلية وهي التعميم في النزاع وحتى الدم في حال كان هناك قتيل من إحدى العشائر.

أولى الخطايا على الأرض وأشنع الجرائم التي وصمت جبين البشرية بعارها

نتيجة الفلتان الأمني وانتشار حيازة الأسلحة في مناطق قسد وضعف ضبط الأمن، تتطور النزاعات الشخصية لأخرى عشائرية وتتحمل سلطة الأمر الواقع مسؤولية الاقتتال العشائري نتيجة غياب القانون وعدم الامتثال له والاحتكام للأعراف، فالخلافات العشائرية غالبا ما تحل وفق الشرع كما بيَّن محمد السليمان.

بالعودة لاقتتال العشيرتين وسط المدينة انتشرت بعد تلك الحادثة الكثير من التسجيلات المرئية التي تحوي أغاني وشعرا حماسية تثير الضغينة ناهيك عن عبارات التحريض على القتل والاعتداء على الآخرين أطلقها أبناء العشيرتين هذا الأمر انتشر كثيرا في الآونة الأخيرة ولا يمكن حصره في واقعة واحدة فالأمثلة عديدة ومواقع التواصل الرقمية تعجّ بها.

كان القتل العمد أوّل خطايا البشر على الأرض حين قتل ابنُ آدمَ قابيل أخاهُ هابيل، والحادثة التي لا زالت تحكمنا وهي تعميم الجُرم الفردي على القبيلة ككل حينما دبرت قُريش مؤامرة للتخلص من الرسول محمد دون أن يطالب به قومه، إذ حيكت ضده مكيدة لجمع رجل من كل قبيلة كي يقتلوا النبي ليضيع دمه بين القبائل؛ ضمانا لعدم قدرة بني هاشم على مواجهة العرب والمطالبة بابن عمومتهم.

تنتهي أغلب القتالات العشائرية بحادثة قتل أو ما يرقى لمجزرة أحيانا، فيسقط ضحايا من العشيرتين المتنازعتين، ويطلق على جريمة القتل في اللهجة المحلية لفظة “بِلْشَة”، وفي حال وقوعها في نزاعٍ ما يعُنى جميع أفراد قبيلة القاتل وعائلته بدم القتيل.

والبلشة هي قتل فرد من عشيرة لآخر من ذات العشيرة أو الأخرى، وأودت البلشة والآخذ بالثأر بحياة الكثيرين من أبناء الجزيرة السورية ذات الطابع القبلي.

في الرقة، تعنى لجنة حل النزاع بكثير من القضايا أحدها البلش أو الدم، وفيه تختلف الأمور بين الأعراف والقوانين القضائية والحكم الشرعي. وقال محمد السليمان رئيس لجنة حل النزاع أنهم استطاعوا حصر الأمر بالقاتل فقط دون أهله، بعد جهد كبير بتوعية الناس وتذكيرهم بالرادع الديني “لا تزر وازرةٌ وزر أخرى” والرادع الأخلاقي. بحسب قوله.

وبيّن السليمان عملهم “نأخذ في البلش قسمين إحداها القضاء والقدر وهو القتل غير العمد وأنزلت الدية لهذه الحالة”. واتفق شيوخ العشائر في الرقة على تحديد دية القتل غير العمد بـ (57) غرام من الذهب، كذلك يفرضون “الجلوة” (وهي أن يُجلى القاتل من مسكنه) احتراما لأهل القتيل، وتسليم القاتل للجهات المعنية.

أما في حالات القتل العمد، لفت محمد إلى أنه “لا سقف للدية، وسقفها مفتوح إلى أن يرضى ولي الدم، سواءً بالدية المحددة أو القصاص إن لم يرضى بالدية”.

ويوضح السليمان “مسألة الدم حساسة ممكن أن تنسف كلمة واحدة وساطات لأشهر لحل المشكلة، والجلوة هي احترامٌ لأهل الدم، وكذلك تسليم القاتل للجهات المعنية كلها أمور تقف في صف احترام الدم. وبعد الإجلاء تكون هناك وساطات للصلح وإعادة العائلة التي أُجليت لمسكنها”.

لا عرف ولا قانون يستند إليه المتنازعون

إلى ذلك يذهب هويدي الشلاش وجيه قبيلة العفادلة ويؤكد حديث محمد السليمان حول دية القتل غير العمد والجلوة للقاتل وحصر الدم بمرتكب الجرم، والمطالبة بدم القاتل في حال عدم رضى ولي الدم بحالة القتل العمد أو دفع الدية وإجراء الصلح، وأشار لحالات “نادرة” تم فيها الصلح ولكنها فشلت بعدها.

ويكشف الشلاش عن نوع آخر من البلشة وهو “نية العمد” وهي سقوط قتيل من طرف ثالث في حال اشتبكت عشيرتين، هنا، تدفع دية القتل العمد ولكن دون المطالبة بالدم، “لا تستند غالبية حالات القتل للدين الإسلامي بسبب عدم القدرة على إقامة الحد الشرعي وهو قتل القاتل” وفق قوله.

يرى عيسى السطم وهو ناشط مدني أن “الاقتتال العشائري تسبب بتفكك مجتمعي، بالإضافة للتشريد أو التهجير، أو الظلم حيث أن بعض الأشخاص من عائلة ما يخطأ ويسبب مشكلة لعائلته كاملةً”. مبينًا “نحن الناشطون المجتمعيون نعمل على توعية الأهالي ونحارب العنصرية لأنها مع التعصب العشائري وتؤدي للبش، ونخاطب الشباب في عملنا لتوعيتهم، ونحثهم على التريّث، وحل الخلافات الشخصية بشكل ودي”.

البلشة مستندة لآراء متناقضة في حلّها مستثناة من قوانين السلطة

يشير القاضي محمد الدعيّل إلى أن “البلشة جريمة قتل والقتل له أنواع في القانون من قتل عمد، قتل قصد، القتل السافل، والقتل المشدد وهو قتل شخصين أو أكثر، والقتل خطأ، والتسبب بالوفاة ولكل حالة عقابها ونصها القانوني في قانون العقوبات السوري النافذ في شمال شرقي سوريا”.

ويوضح الدعيّل “القتل العمد عقوبته الإعدام، أما القتل السافل وهو القتل لفعل دنيء كالقتل بحادثة سرقة عقوبته الأشغال الشاقة المؤبدة، والقتل قصدًا في القانون السوري بحسب المادة 533 ف يعاقب مرتكبه بالأشغال الشاقة لمدة 15 عام، والقتل الخطأ دون نية القتل كـ من يضرب آخر على رأسه بعصا ويطلق عليه (الإيذاء المفضي إلى الموت) وهو جناية وتتراوح عقوبته من 7-3سنوات، أما التسبب بالوفاة فـ يعتبر جنحة وتتراوح عقوبته بين 3 أشهر، وسنة واحدة إلّا في حال إسقاط الحق الشخصي يُوقف مرتكب الجنحة احترازيا لمدة شهر”.

وتبقى الاقتتالات العشائرية ذريعة لنشر الفوضى من قبل القوى المتصارعة على الجزيرة السورية، وما زالت العشائر تنجر وراء تلك المظاهر الجاهلية دون الاحتكام للعقل وضبط النفس.

قد يعجبك ايضا