الجيش السوري..والصراع داخل معسكر الأقليات

عبد الناصر العايد

عرضنا في الجزء الأول من هذه السلسلة، خروج الدولة السورية من مرحلة الانتداب التي بُنيت خلالها، وهي تقوم على ركيزتين اجتماعيتين ممثلتين في قطاعين، هما: السياسة بمعناها الواسع، الذي هيمنت عليه نخب مدينية سنّية، والجيش الذي حُشدت فيه النخب الأقلوية، وكيف تمكن هؤلاء من اختطاف السلطة بقوة السلاح بعد جولة قصيرة من الصراع. ورأينا في الجزء الثاني الصراع المنقول إلى ميدان الجيش، حيث واصل العسكريون من السنّة والأقليات الصراع الاجتماعي على السلطة فيه، وكيف آل الأمر في النهاية إلى ضباط الأقليات أيضاً. وسنناقش في هذا الجزء، المرحلة الثالثة، التي شهدت الصراع داخل معسكر الأقليات، فقادت إلى انفراد العلويين بالسلطة المطلقة.

فبُعيد إطاحة نظام الانفصال (أي نظام المُنقلبين على الوحدة مع مصر) والمكوّن أساساً من ضباط دمشقيين في 8 آذار 1963، تسلّم صلاح جديد إدارة شؤون الضباط، وقاد منها جُملة من التحركات التي غيرت بُنية الجيش، إذ تم “صرف 104 ضباط كبار من الخدمة، وبعد ثلاثة أيام طرد 150 ضابطاً متوسطاً وصغيراً”[1]. وانتهز جديد ورفاقه فرصة فشل انقلاب العقيد جاسم علوان (سنّي من دير الزور) في 18 تموز/يوليو 1963، لإزاحة المزيد من الضباط مع كتلهم مثل “لؤي الأتاسي وزياد الحريري، والناصريين محمد الصوفي وراشد القطيني وفواز محارب، الذين كانوا أعضاء في المجلس الوطني لقيادة الثورة، بصفته السلطة العليا للدولة عقب انقلاب 8 آذار 1963، وجميع هؤلاء الضباط كانوا من السنّة”[2].

ومع اندلاع حرب حزيران 1967، كان أكثر من ثلث ضباط الجيش قد طُرد، فوفقاً لعبد الكريم زهر الدين، رئيس الأركان بين العامين 1961 و1963، فإن “عدد الضباط في العام 1961 وصل إلى نحو 1800 ضابط”[3]…و”تم استبدال نصف الضباط المسرحين البالغ عددهم حوالى 700 بعلويين”[4] واحتل صلاح جديد منصب رئيس أركان الجيش في آب/ أغسطس 1963 إلى أيلول/ سبتمبر 1965، وأصبح حافظ الأسد قائد القوى الجوية والدفاع الجوي، فيما اختار محمد عمران، مع أنه الأعلى رتبة بينهم، قيادة اللواء المدرع سبعين، المتمركز جنوبي دمشق، ليكون الحامي الفعلي للسلطة الجديدة، وبسرعة كبيرة أصبح هذا اللواء اعتباراً من هذه المرحلة القوة الضاربة في الجيش السوري، و”علوياً بقيادته وقواعده تقريباً”[5]، وتزامن ذلك مع ارتفاع شديد في عديد القوات المسلحة من نحو 12 ألف رجل العام 1948، إلى “60 ألف جندي في العام 1966″[6].

وبعدما استتب الأمر لضباط الأقليات في الجيش، بإزاحة آخر كتلة سنّية وهي الكتلة الريفية، توجهت أنظارهم إلى المجال المدني، حيث كان حزب “البعث” ما زال الغطاء السياسي لسلطتهم. وبسبب التمثيل الجغرافي لقياداته، فقد كانت نسبة السنّة فيه طاغية، وتم اتباع التكتيك ذاته في هذا المجال أيضاً، أي تدمير قوة سنّة المدن باستخدام السنّة الريفيين. وعلى خلفية هذا التناقض، تفجر صراع حاد، بين القيادة القومية لحزب “البعث”، التي يسيطر عليها أمين الحافظ وميشيل عفلق وقدامى البعثيين، وجلهم مدينيون، وبين القيادة القُطرية التي يسيطر عليها صلاح جديد، وجلها من الأرياف الأقلوية والسنيّة. وفي محاولة لتحطيم سيطرة جديد على قيادة الفرع السوري للحزب “قررت القيادة القومية في 19 ديسمبر/كانون الأول 1965 أن تتقلد زمام السلطة بالكامل عن طريق حل القيادة القُطرية السورية”[7]. لكن سرعان ما وجّهت ضربة قاصمة لأمين الحافظ ومجموعته، بانقلاب عسكري في 23 فبراير/شباط 1966، لعب فيه كل من سليم حاطوم الدرزي، وعزت جديد العلوي، الدور الرئيسي، وهنا يلاحظ أيضاً أن “نسبة كبيرة وملفتة من الذين تمت تصفيتهم بهذه الطريقة كانت من السنيين”[8]، وسارعت الكتلة العلوية إلى تثبيت مكاسبها الجديدة بوضع يدها على الجزء الأكثر خطورة من السلطة، وهي وزارة الدفاع التي عيّن فيها حافظ الأسد في 23 شباط 1966 حتى قبل إعلان مجلس الوزراء الجديد”[9].

في هذه المرحلة استشعر العسكريون من الأقليات سعي العلويين المتزايد للإطباق على السلطة والانفراد بها، فتوجه الضباط الدروز، أبرز كتل الأقليات إلى إنشاء تنظيم سري بقيادة سليم حاطوم، الذي كان قائد قوات المغاوير، وصاحب الدور البارز في انقلابي 1963 و1966، من دون أن يحصل على أي منصب مهم، وانخرط هؤلاء سراً في تنظيم سياسي يتبع للقيادة القومية المنحلة، أسسه منيف الرزاز المتواري في دمشق، وضم قدامى البعثيين وجلهم من سنّة المدن الكبرى، يدعمه تنظيم عسكري يقوده اللواء الدرزي فهد الشاعر، “استثنى العلويين بصفة خاصة”[10]، وانخرط فيه حاطوم وطلال أبو عسلي، الذي كان قد أُبعد عملياً من خلال إسناد مهمة قيادة جبهة الجولان له. لكن مخطط الرزاز والشاعر انكشف في 8 أيلول 1966، وفرّ حاطوم وأبو عسلي إلى الأردن، وقال حاطوم في مؤتمر صحافي عقده في عمّان يوم 13 أيلول 1966 إن “الروح الطائفية تنتشر بشكل فاضح في سورية، وخاصة في الجيش سواء بتعيين الضباط وحتى المجندين، وإن الفئة الحاكمة تعمد إلى تصفية الضباط والفئات المناهضة لها، وتحل مكانهم أتباعها في مختلف المناصب، فقد بلغت نسبة العلويين في الجيش خمسة مقابل واحد من جميع الطوائف الأخرى”[11]. وفي مطلع 1967 صدرت الأحكام على المجموعة المشتركة في ما سمي بمؤامرة 8 أيلول، وفيها تم الحكم بالإعدام على نخبة الضباط الدروز في ذلك الوقت، وهم “فهد الشاعر وسليم حاطوم وطلال أبو عسلي وعبد الرحيم بطحيش وفواز أبو الفضل”[12]، وعندما عاد حاطوم في حزيران 1967 إلى سورية، لم يشفع له وضعه لنفسه بتصرف السلطة القائمة لمواجهة الهجوم الإسرائيلي، ونفذ فيه حكم الإعدام الصادر بحقه في 26 حزيران 1967.

تلَت هذه المرحلة عمليات تطهير لشراذم من الكتل العسكرية غير الكبيرة، فقد “تم إعفاء أحمد سويداني رئيس أركان الجيش السوري وهو من حوران، وكان فيما سبق من أنصار جديد، من منصبه، وكان هذا يعني خلع الشخصية العسكرية الرئيسية المتبقية من حوران”[13]، ثم اعتُقل السويداني وعدد من مؤيديه من الضباط الحوارنة، وبقي في سجون الأسد 25 عاماً، كما حدثت موجة اعتقالات في أيار/مايو 1970 بتهمة التآمر لإطاحة الحكم لصالح البعث العراقي بتدبير من أمين الحافظ، وضمت ضباطاً من حوران وحلب وإدلب، وأخيراً أزيل آخر معاقل الأقليات بتحجيم ومحاصرة عبد الكريم الجندي، رئيس مكتب الأمن القومي، وآخر الضباط الاسماعيليين البارزين، ودفعه إلى الانتحار أو تصفيته في ظروف غامضة، أشير فيها إلى رفعت الأسد، الذي سينبئ ظهوره في الساحة إلى جانب شقيقه حافظ، ببدء مرحلة الهيمنة العلوية المطلقة على الجيش، ثم تحولها إلى سلطة مخصوصة في عشيرته وعشيرة زوجته، ثم انحصارها اعتباراً من مطلع الثمانينيات في عائلة الأسد وحسب، حيث ستدور رحى جولة جديدة داخل هذه العائلة نفسها على “الدولة”، فيما صار الشعب السوري بأكثريته وأقلياته خارج الصراع الاجتماعي السياسي وعلى هامشه، وهذا ما سنناقشه في الجزء الرابع.

_________________________

[1]- بطاطو، حنا: فلاحو سوريا، أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم، ت: عبد فاضل و رائد النقشبندي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بدون تاريخ أو مكان نشر، ص 249.
[2]- فان دام، نيقولاس: الصراع على السلطة في سوريا :الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة- 1961-1995، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية 1996، ص60.
[3]-المصدر: عبد الكريم زهر الدين، مذكراتي عن فترة الانفصال في سورية، بيروت، دار الاتحاد، 1968، ص481.
[4]-فان دام، ص60.
[5]-فان دام، ص108.
[6]-أجهزة الأمن الأمن اللبنانية والسورية، ص8.
[7]-فان دام، ص76.
[8]-فان دام، ص81.
[9]-فان دام، ص85.
[10]-فان دام، ص82.
[11]-فان دام، ص93.
[12]-فان دام، ص94.
[13] فان دام، ص99.

 

المصدر: المدن

الجيش السوري..الانقلابات الأولى التي جوّفتْ الدولة

قد يعجبك ايضا