السياسة والانحياز الأخلاقي

محمد المحمود

يقول المؤرخ والفيلسوف الأميركي ويل ديورانت: “التقدّم يقوم على التربية ونظام الحكم أكثر مما يستند إلى قضاء القوي على الضعيف”، كما يؤكد ـ في سياق هذا المعنى ـ أنه “في أي مجتمع يكون سلطان الإنسان على غيره متناسب تناسباً عكسيا مع النمو الفكري الذي وصل إليه ذلك المجتمع”(مباهج الفلسفة، ج2ص101و121). والمعنى من هذا وذاك، أن روسيا كانت ولا تزال في قاع التخلف، وهي أبعد ما تكون عن التقدّم؛ إذ لا تربية حضارية تُؤسِّس لوعي حضاري، ولا أنظمة مؤسساتية متقدّمة، وهذا ما جعل لبعض الأفراد فيها سلطات فائقة على بعضهم الآخر، وبالتالي، وكمنتج لحالة التردّي؛ لا منجزَ غير القوة العسكرية التي تبقى ـ في النهاية، وبحساب القوة الحقة ـ هزيلة، لا تَسْتأسِد إلا على الضعفاء.

يسهل تحقيق كثير من التقدم الصناعي/ التقني، بينما يصعب تحقيق التقدم الفكري؛ لأن التقدم الأخير هو اشتغال ـ واعٍ ومُبْدع ومُنظّم وطويل النَّفَس ـ على العقول، أي نظام الوعي العام، بينما الثاني اشتغال تقليدي على الأشياء. وتكون الخطورة حين تتسع الهُوّة ما بين التقدم الأول والثاني؛ إذ ـ في مثل هذه الحال ـ تُصْبح هناك قُوّة كبيرة في يَد مَنْ لا يُحْسِن التصرّف بها، أي تصبح هناك عضلات قوية لكائنٍ بلا عقل، أو لكائنٍ بعقل ضعيف أو مُعْتَلٍ بالتخيّلات والأوهام. وهنا يصبح التأزم والاستشكال، بل وربما الدمار، متوقعا.

الأزمات هي مُخْتَبر العقول، هي التحدّي الذي يكشف ـ حقاً ـ عن مستوى الوعي للأفراد والجماعات والدول. قد تخدع المظاهرُ مَن لا يعرف البواطن، وقد تكون الاستعراضات في الجليل والجميل مُغْرِيَة للأكثرية الساحقة من الجماهير، وقد يكتفي كثير من الكسالى ـ وللأسف هم الأكثرية ـ بعناوين كُتُبِ الدول؛ ولا يُكَلِّفُون أنفسَهم استعراضَ صفحاتِها؛ فضلا عن قراءة سُطُورِها، ثُمَ تَتبّع ما بين السطور، بل وما خلف السطور أيضاً، وصولاً إلى استبصار ما قاله النص بالصمت عنه !

نعم، طبيعي أن يحدث كل هذا الخداع وكل هذا الانخداع، ولكن الأزمات تُزيل الستارَ عن كل هذا؛ حتى تُسْمِع الأصَمَّ، وتُبْصِر للأعمى، وتُفْهِمَ مَنْ لا يكاد يَفهم. وإذا كان للأزمات هذا الدور الإيجابي في التعرية والكشف والإفهام، وإذا كانت تُمَثِّل صرخةَ نَذيرٍ على أكثر من مستوى؛ فتنقذ ملايين الأرواح، وتحفظ جهد عشرات السنين من البناء الحضاري، فإنها ـ للأسف ـ قد تَحْدُث في الوقت الضائع لكثيرين، أي لأولئك الذين لا يستطيعون استيعاب دلالاتها إلا بعد فوات الأوان.

روسيا اليوم، وبعقلية ما قبل القانون الدولي الحديث، تجتاح دولة أخرى ذات سيادة كاملة، أوكرانيا. روسيا بوتين، تجتاح دولةً معترفا بها عالمياً بالقوة العسكرية العارية المُفْتَقدة لأدنى غِطاءٍ شرعي. تفعل ذلك ـ في سابقة خطيرة جدا على العلاقات الدولية ـ بشكل مُعْلن، بل وبوعيد يتمدّد ـ توحّشا ـ إلى ما يُشْبِه الجنون، حيث “التهديد الإرهابي” باستخدام السلاح النووي !

تَتذرّع روسيا بمبررات تقع خلفَ كل القوانين والشرائع الدولية. تتذرع بالتاريخ، وأحيانا بالجغرافيا، وكثيرا بالأمن القومي، بل وبالأعراق واللغة…إلخ، إلى غير ذلك من الذرائع المطروحة. وإذ يَتفَهّم بعضُ المراقبين بعضَ هذه الذرائع، فإنه لا أحد ـ إلا إذا كان شريكاً في الجريمة ـ يُبَرِّرُ الاجتياح العسكري بأي من هذه الذرائع، لا بل وبها جميعا.

لو أن مثل هذه الذرائع الروسية – المطروحة بشكل مُضْطرب، ومتردّد، وغير جازم بكفاية الاستجابة لها – تسمح باجتياح الدول؛ لأكلت معظمُ الدول القوية أغلبَ الدول الضعيفة، ولأصبحت شريعةُ الغاب، أو قانون القوة أو منطق الافتراس…إلخ، هي وسائل التواصل وأدوات حَلّ الخلافات؛ ولأمْكَنَ لكل دولةٍ قوية أن تجد ما هو أكثر بكثير من مُبَرّرات روسيا في اجتياح أوكرانيا، كي تجتاح ما تجد فيه مَطمعا. فمثلاً: ما الذي يمنع الهند من اجتياح باكستان! ألم يكن شعب باكستان جزءا عِرقياً من الشعب الهندي؟ ألم تكن الأرض الباكستانية أرضاً هندية منذ آلاف السنين؟ ألا يوجد تهديد عسكري باكستاني؟ ألا توجد مناطق حدودية متنازع عليها؟ المبررات أو المزاعم التي يمكن أن تطرحها أي دولة قوية كمُبرّر لافتراس الدولة الأضعف، فهل كل هذه المبررات تدعو لِحوارٍ أو تَفاهمٍ أو تَحاكمٍ دولي ـ مهما طال ـ أم أن الاحتلال العسكري ـ وفق المنطق النازي ـ هو الحل لوجود مثل هذه المبررات الصادقة أو الكاذبة ؟!

إن المنجز الأكبر للحضارة الغربية أنها أدخلت التوحش العالمي في سجن القانون، أنها أنهت شريعة الغاب الدولية. وبهذا أمكن للدول الصغيرة أن تعيش وتبني ذاتها بأمان، بعيدا عن أي تخوّف من غزو غاشم أو حتى التهديد به.

الأغلبية الساحقة من دول العالم لا تستطيع حماية نفسها بنفسها. قد تستطيع ذلك أمام أقرانها من الدول، وإن كان ذلك بتكاليف باهظة، ولكنها لن تستطيع حماية نفسها أمام الدول القوية، خاصة أمام الدول الكبرى التي تمتلك تطورا نوعيا في السلاح. لكن، وبفضل القانون الدولي، ومؤسسات الشرعية الدولية التي قامت على التوافق الدولي منتصف القرن العشرين، أمكن لدول صغيرة جداً، وغنية جداً، وغير مسلحة، أن تعيش بأمان من أي غزو أو عدوان.

إذن، التضامن مع أوكرانيا هو موقف مَبَادئ من ناحية قانونية وشرعية دولية، كما هو ـ من جهة أخرى ـ موقف مبادئ من ناحية أخلاقية. وإذا كان الموقف المبدئي أو الأخلاقي مبنياً على الموقف القانوني، من حيث كون القانون يُحَدِّد طرفي صفة “الاعتداء”، والأخلاق تقضي بالتضامن مع المُعْتدى عليه أي المظلوم، فإن ما وراء القانون (ما فوقه وقبله وبعده)، هو أن أوكرانيا دولة تنتمي ـ نسبياً ـ إلى الضفة الحضارية التي تستلهم تراث التنوير الإنساني، ومسيرتها في السنوات الأخيرة هي مسيرة “تغرّب”، أي مسيرة تحضّر وتقدّم حقيقي. وفي المقابل، كانت روسيا هي الموطن التقليدي لكل ما هو مضاد لهذه المسيرة التقدمية، وحتى عندما حاولت التقدم بقليل من الانفتاح الحَذِر المرتاب؛ لم تتقدم ـ أي روسيا ـ خطوة إلى الأمام في استلهام قيم التحضّر والانفتاح؛ إلا لكي تَرتَدَّ مع كل خطوة أمامية، عَشرَ خطوات إلى الخلف في استلهام قيم التخلف والانغلاق.

يحلو لكثيرين ـ ومن زاوية مكيافيلية ـ أن يقولوا: لا أخلاق في السياسة، لا مبادئ في السياسة، ويعدّون هذا “واقعية سياسية”، بل ويعدّون التفسير على ضوئها وحده التفسير الصائب، الصائب في كل حالة، وفي كل الأوقات. والأهم، أنهم لا يُقَرّرون هذا كتوصِيفٍ لِوَاقعٍ فقط، بل كتوصِيفٍ لواقع، وفي الوقت نفسه كتنظير لما يجب أن يكون عليه الواقع في كل الأحوال.

وبصرف النظر عن كون مكيافيلي يصف واقعاً متعيناً في زمانه ومكانه، وينظر للتعامل معه على ضوء الممكن فيه؛ دون أن يكون بالضرورة يستصوبه، فإن هذه في العموم – أي ما فهمه “الغائِيون” عنه – تبقى رؤية غير واقعية تماما، كما أنها ليست مُلْزِمة على مستوى الاشتراط النظري. فالأخلاق منذ أرسطو كانت مبحثا سياسيا، وتواشج المبحثان: السياسي والأخلاقي على مدار تاريخ الفلسفة، وأقسام الفلسفة السياسية في الجامعات هي التي تُدَرِّس موادَ الفلسفة الأخلاقية وفلسفة الأخلاق. ما يعني أن الأخلاق أو المبادئ هي في صميم الرؤية السياسية، إن لم يكن ذلك دائماً على مستوى التحقق العملي، فيجب أن يكون ذلك مُجْتَرحاً على الدوام في مستوى التأمل النظري.

صحيح أن للسياسة – باعتبارها فن إدارة المصالح على ضوء الممكن الواقعي – ضروراتها، وأن الفاعلين فيها ومعها هم “البشر” الأوفياء لمصالحهم دوماً. هذا صحيح، ومفهوم، ومُقَدَّر في مدى شرطه السياسي العملي الخالص. ولكن، من الصحيح أيضا أن الإنسان ـ سياسياً أو غير سياسي ـ ليس كائنا مصلحيا أو أنانياً بالكامل، ليس مجرداً في كل تَمثّلاته السياسية من كل مبدأ أخلاقي، إذ هو قبل السياسة وبعدها: إنسان.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فليست “كل المصالح” مصالح مادية تماماً، إذ المصالح الرمزية والاحْتِيَاجات المعنوية لها اعتبارها، بل ربما تجاوزت ـ في بعض الأحيان ـ كثيراً من المصالح المادية المباشرة. فالذين يُطْلِقون عبارة “السياسة فن إدارة المصالح” مُصِيبون ومخطئون في الوقت نفسه، مُصِيبون إن فهموا المصالح بما هو أوسع وأغنى من النفع المادي المباشر، ومخطئون إن فهموا المصالح في حدود المردود المادي الخالص.

إن الإنسان وإن كان في أصله “واقعة حيوانية”، وبالتالي، مشروط بوجوده المادي أو الحيواني، إلا أنه ـ في كل أحواله ـ أكثر وأغنى من حيوان. ما يعني أن القيم والمبادئ الرمزية تأخذ من اهتمامه الكثير والكثير، بل ربما تجاوز هذا الاهتمام ـ عند بعض الأشخاص وفي بعض الظروف ـ كلَّ مصلحة مادية. ومعروف أن كثيرين ضحّوا بأنفسهم – أي بكل وجودهم المادي من الأساس – في سبيل اعتبار رمزي أو معنوي، بل أحياناً في سبيل اعتبار رمزي قد لا يرونه أبداً في حياتهم. وهذه هي مسيرة أوسيرة الأبطال ومُسْتَهدَف التضحيات منذ وُجد الإنسان.

إن هذا الاعتبار الرمزي الأخلاقي مُهِمٌ في موقعه من سُلّم الاهتمامات الإنسانية، فحتى في الوقت الذي يتجاهل الإنسانُ فيه هذا الاعتبار عمليّا، هو يدّعيه ويَتذرع به ضرورة. أقصد أن هذا الانشداد للأبعاد الرمزية أو المعنوية هو الذي يجعل المصالح المادية العارية تحتاج ـ في الغالب ـ لتغطية أخلاقية ومَبَادئية، وهو أيضا الذي يجعل الإنسان حريصاً ـ قدر الإمكان ـ على المُوَاءمة بين مصالحه المادية والاعتبارات الأخلاقية، وأنه قد يُضَحّي بشيء غير قليل من المادي في سبيل الاعتبار الأخلاقي أو الرمزي.

إضافة إلى كل ما سبق، تبقى حقيقة مفادها أن المادي لا ينفك عن حضور رمزي بمستوى ما، كما أن الرمزي ليس مجرداً من كل عائد مادي. قد لا يتّضح ذلك دائما، خاصة في ظروف التباعد الزمني في مسار التحوّل، وفي ظروف اختلاف المعطى الأخير في مسار التحوّل. ولكن، رغم هذا الاختلاف وهذا التباعد، فالإنسان يستشعر ـ غير واعٍ في الغالب ـ وجودَ هذه العلاقة التبادلية بين الرمزي والمادي. ولهذا، يبذل جهده، ويُضَحّي بالكثير في سبيل أن تتحقق مصالحه المادية على نحو يضمن الاعتبارات الرمزية التي تضمن مصالحه المادية في المدى البعيد. والعكس صحيح، وكثير من شواهده مُتَحقّقة في الواقع المعاش.

المصدر: الحرة

قد يعجبك ايضا