(المئذنة البيضاء): رواية الاختزال المُسف والإثارة الجنسية والغمز الطائفي!

جسر – صحافة

النقد الأدبي بالنسبة لي حالة تذوّق خاصة، فما يعجبني قد لا يُعجب الآخرين، على الرغم من أن هناك أعمالاً قد تلقى رواجاً أكثر من سواها، خصوصاً إذا توفّر لها ما يروّجها بوسائط مختلفة، وما أكثرها في هذا الزمن المفتوح والمغلق بالآن نفسه.
إلا أنني عند اطلاعي على عمل ما أدبي أو غير ذلك، أثار عندي فضولاً يتجاوز حالة القراءة لمجرد القراءة. لا أنطلق من صورة نمطية مسبقة وألقي أحكامي عليه قبل قراءته بتمعّن لأكثر من مرّة، سعياً لمستوى عادل من الحكم عليه، أو هكذا أظن.

بيروت المواخير: الاختزال المُسفّ!

رواية ( المئذنة البيضاء ) للكاتب يعرب العيسى تصفّحتها بقراءة سريعة ولم تعجبني، فوضعتها جانباً. لكني وجدت نفسي مرغماً لقراءتها بهدوء وتمعّن، لكثرة ما تحدّث عنها أصدقاء أثق بثقافتهم ومواقفهم (أو كنت)، وأطنبوا بالمديح، حتى إن أحدهم كاد يضعها – بكل بلاهة – في خانة روائع الأدب العالمي.

لا شك أن العمل في صفحاته الأولى يشدّ القارئ ويفرض عليه تعاطفاً مع بطل الرواية (غريب الحصو)، أو (مايك الشرقي) الذي فقد كل مأوى له في شوارع دمشق، حتى مساجدها لم تعد تؤويه، وكاد يصبح بلا ثياب بعد أن فقد حذاءه وغدا حافياً، غادرها غير آسف على عريّه، وبدون أن يذكر الكاتب صراحةً، امتلأت روحه بالكراهية لها ولكامل ماضيه (أمّه الأقرب للمومس، وأبوه الأقرب للخائن). غادر دمشق إلى بيروت، المدينة التي تقع تحت وطأة حرب أهلية، ورُتبت جميع ظروفها وشروطها وعلاقاتها ليكون لها قوّادوها. شاءت ظروفه التي تقاذفته ليعمل قوّاداً صغيراً عند القوّاد المحترف (الشيخ قاسم)، وتلميذاً له. لكنه كان أكثر ذكاءً وبراعة. وبعد أن كسب ثقته تمكن أن يرثه مهنةً وعلاقاتٍ وثروةً.

لم يرَ الكاتب في بيروت إلا المواخير والنوّاب (أشباه القوادين)، ولا اعتراض على هذه الأمر، فهي رؤيته وثقافته عن بيروت وموقفه منها، لكن الغريب هو أنه يذهب إليها في زمن الموت والدمار فلا  يرى فيها حرباً أهلية معروفة الأسباب على الأقل للجيل الذي عاش تجربتها وقسوتها، لم يرَ فيها (تل الزعتر) المجزرة التي وقّعها حافظ الأسد واليمين المسيحي،  ولا مجازر صبرا وشاتيلا ولا الاجتياح الإسرائيلي، وقلعة الشقيف، ولا الآلاف من الشهداء. لم يرَ فيها تآمر الشرق والغرب، والصديق والشقيق والعدو. هي في ذهن كاتبنا المبدع “مجرد مواخير تُسيّر حياتها”.
يذهب الكاتب إلى بيروت  في زمن الموت والدمار فلا  يرى فيها حرباً أهلية معروفة الأسباب على الأقل للجيل الذي عاش تجربتها وقسوتها، لم ير فيها (تل الزعتر) المجزرة التي وقعها حافظ الأسد واليمين المسيحي،  ولا مجازر صبرا وشاتيلا ولا الاجتياح الإسرائيلي، ولا آلاف الشهداء. هي في ذهن كاتبنا المبدع “مجرد مواخير تُسيّر حياتها”.

العراق والكويت: شواذ وعشاق جنس!

كان بطل الرواية طموحاً، ولم يقبل أن يُبقي الأمور كما ورثها من أستاذه. أراد لمهنة القوادة أن تتطور مع تلاحق الأحداث، وتستغل كامل ظروف المنطقة وخرابها ليبني لنفسه من خلالها ثروة لا حدود جغرافية تحيطها. نقل أموال بالطائرات، فنادق هنا وهناك، علاقات مع المافيات روسية وغير روسية، وخلال عرضه لمرحلة تطور الثروة وتضخمها استعرض الكاتب بالكثير من الاجتزاء والاختيار المقصود أزمات المنطقة ومآسيها: خلال اجتياح الكويت كان عنده زبون استنجد فيه لتأمين عائلته وإقامتهم في بيروت، فلبّاه، ليصبح الزبون نفسه شريكاً له بعمليات نصب على الحكومة الكويتية أضافت لثروته ثروات. ثم كانت حرب الحلفاء على العراق وحصاره فيما بعد، ليجتزئ منها أكثر وأكثر، فلم يرَ في حصار العراق ودماره إلا زبوناً آخر معجباً بالغلمان. يؤمّن له غلمانه، ويتبادل معه المكاسب (النفط مقابل الغذاء والدواء)، ومع اجتياح العراق لا ينسى الترحّم على صدام حسين لما أكسبه إياه من ثروات جرّاء جنونه. ببساطة، ورغم حشو الكثير من تفاصيل لا ضرورة لها في العمل الروائي، ومَصوغة كتقرير صحفي أكثر منه روائي، حضر في سرد الأحداث كل سواد وجميع الصفات السيئة في الكويتيين والعراقيين، حتى ليشعر القارئ أن الاجتياح العراقي للكويت، ثم الغزو الغربي للعراق حدثان صُنعا ليكون لهما قوّادهما، هدف من هذا الاجتزاء والاختيار والسرد تثبيت الصور النمطية السلبية عن العراقيين والكويتيين، شواذ وعشاق للجنس المبتذَل السوقيّ، كأن ليس في العراق كتّاب وشعراء وعلماء ذرّة، وليس في الكويت مثقفوها وإعلامها ومطبوعاتها التي هي رائدة على المستوى الثقافي العربي بأكمله.

لم ينسَ الكاتب ضرورة انتقال بطل الرواية إلى الأفق الأوسع شرقاً وغرباً، والسرد عن دولة خليجية أخرى، والإشارة لانتقال المافيات لتنشط فيها من خلال الطفرة الإعمارية والأبراج والفنادق بحيث أصبحت مركزاً لتشغيل أموال هذه المافيات وإعادة تدويرها، خصوصاً بعد أن ضاق عليه لبنان، وأصبح بحاجة لزيادة الانتشار والتوسع.

المصدر: أورينت نت

قد يعجبك ايضا