النظام السوري يعالج ملف الهجرة: سافروا بصمت يا ناكري الجميل!

جسر – صحافة

من المرهق حقاً متابعة كمية الأحقاد المتبادلة التي يظهرها السوريون بحق بعضهم البعض، لدرجة تجعل التعاطف معهم أحياناً كمجموعة بشرية واحدة تحمل جزافاً هوية مشتركة، صعباً، حتى عندما يتعلق الأمر بقضية طارئة وإنسانية مثل الهجرة من البلاد بحثاً عن حياة أفضل، بعد عشر سنوات كاملة من الثورة والحرب التي أفضت إلى نتائج لم يرغب بها أحد ربما، من بينها ارتفاع معدلات الفقر التي تطال أكثر من 85% من السوريين في الداخل بحسب الأمم المتحدة، مقابل معاناة 60% من السكان من انعدام الأمن الغذائي والجوع بحسب برنامج الأغذية العالمية.
وفي بلد بات يعرف ببلد الطوابير والعتمة عطفاً على اختفاء المواد الأساسية كالخبز والبنزين وانقطاع التيار الكهربائي شبه الدائم، ومع سياسة الإذلال الممنهج الرسمية بحق السوريين، وانعدام الأمن بسبب انتشار التشبيح والميليشيات، من المنطقي أن يرغب سكان البلد بالرحيل على أمل بدء حياة جديدة، مع تساؤلات منطقية بشأن هويتهم، كأغنياء نافذين أو فقراء مغلوب على أمرهم. من غير المفهوم بالمقابل هو الهجوم على الأفراد من قبل أطراف مختلفة ومطالبتهم بالبقاء، سواء لكونهم، كموالين للنظام، لا يستحقون الحياة في مكان غير سوريا الأسد، ضمن منطق بعض المعارضين الراديكاليين، أو لأن عليهم، كمواطنين صالحين، إظهار الامتنان لـ”القيادة الحكيمة” عبر البقاء بصمت في البلاد وعدم الانجرار نحو الخيانة والعمالة، وفق منطق الإعلام الرسمي.

ينطلق ذلك الخطاب من صورة إعلامية نمطية للسوريين الذين يعيشون تحت سلطة نظام الأسد، بوصفهم موالين وشبيحة يستحقون ما يجري لهم، رغم أنهم يشكلون من وجهة نظر أشمل ضحايا للنظام الحاكم بالدرجة الأولى، خصوصاً أن كثيراً منهم لم يختبر سلطة أخرى ولا يمتلك ربما حيزاً واسعاً لإجراء مقاربات مع دول العالم، سوى من منظور ضيق تؤثر فيه عمليات غسل الأدمغة التي يقوم بها النظام منذ عقود بحق السوريين منذ سن صغيرة عبر مؤسساته المختلفة. كما أن ظروف الحياة القاسية تجعل التعاطف معهم خياراً مطروحاً في أقل تقدير.

على أن المسألة هنا لا تتعلق بهم بقدر ما تتعلق بالسوريين المعارضين الذين ثاروا من أجل كرامة كل السوريين، قبل عشر سنوات، ولم يصلوا إلى نتيجة سوى التشرد والحرمان والقتل والتشتت واللجوء بسبب سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها النظام منذ العام 2011 في وجه الثورة السلمية حينها. وفيما كان الموالون في العموم صامتين أمام المجازر، تصبح القضية وجودية وأخلاقية في آن معاً. هل ينبغي التعاطف الرماديين والصامتين إن كان بالإمكان اعتبارهم شركاء في سفك الدم، وفق وجهة نظر راديكالية، والأكثر من ذلك، هل تصبح شكاواهم الاقتصادية ذات أهمية اليوم، في مقابل الشكاوى الحقوقية التي عانى منها الطرف الآخر؟ وكيف يمكن المساواة بين صور تأتي من المطارات وصور أخرى لسوريين يموتون في قوارب الموت في البحر المتوسط؟

قد تكون مواقف بعض المعارضين مفهومة أكثر عند قراءة منشورات واسعة الانتشار من جانب الموالين، يتحسر أصحابها على موسم الهجرة الجديد من البلاد والذي رغم عدم توفر أرقام واضحة بشأنه، سوف يؤدي إلى تحول سوريا إلى بلد للعجائز فيما ستفرغ البلاد من نصف سكانها. ذلك الطرح مستفز بشكل خاص لأن البلاد فقدت نصف سكانها أصلها خلال السنوات العشر الماضية، فإلى جانب مقتل نحو نصف مليون سوري فقد نحو 12 مليوناً منازلهم وتشتتوا بين لجوء خارجي ونزوح داخلي.

على أن تلك المنشورات تنطلق في العموم من شخصيات محسوبة على النظام ومن صفحات مخابراتية. وتظهر بوضوح الطريقة التي يتعامل بها النظام مع السوريين، ومفادها أن ضحايا النظام خلال السنوات العشر الماضية، من قتلى ومشردين، يشكلون في مجموعهم التفاحات الفاسدة التي وجب التخلص منها كثمن “زهيد” للوصول إلى “اليوتوبيا الأسدية” التي يبقى فيها الرئيس بشار الأسد في الحكم إلى الأبد ممتصاً دماء السوريين، من دون أن يشتكي أحد.

وفيما يطلق على ذلك تسمية “المجتمع المتجانس” حسب وصف الأسد شخصياً، فإن موضوع الهجرة أعاد المصطلح إلى الواجهة مجدداً، فمن يرحل من سوريا اليوم حسب شخصيات إعلامية رفيعة المستوى في وزارة الإعلام هم ناكرون للجميل وجاحدون ومن الجيد التخلص منهم. وكان لافتاً محاولة تأليب الجمهور المحلي على المهاجرين الجدد بوصفهم “مصاصي دماء الشعب السوري” من فئة التجار والصناعيين الذين لا يجب على الفقراء التعاطف معهم بل الفرح لرحيلهم لكونهم منبع الفساد.

وإن كان ذلك طريقة خبيثة لتبرئة الدولة السورية من تقصيرها في الملفات الخدمية والاقتصادية أمام الموالين الغاضبين من عدم تحسن ظروف الحياة رغم “الانتصار على الإرهاب”، فإنه أيضاً يعمد إلى تقسيم السوريين في الداخل نفسه إلى فئتين توجد بينهما عداوة ضارية. الأولى هي المهاجرون الأثرياء والثانية هي الباقون الفقراء. ويعتبر ذلك أسلوباً كلاسيكياً في الدول الشمولية، لتقسيم “الرعية” بين أفكار الأقلية والأكثرية وتعزيز تلك النزعات ضمن سياقات مختلفة. وهو أمر برع فيه نظام الأسد طوال خمسة عقود، مع تحكمه بالسردية ونوعية تلك الفئتين حسب المعطيات الآنية في كل مرحلة، وأفرز ذلك مجتمعاً مقسماً على أسس مختلفة، على عكس ما يدعي بأن سوريا بلد علماني أفرز هوية وطنية جامعة.

يتم تغليف ذلك الخطاب السام بأنه رد على البروباغندا الغربية بشأن سوريا والتي تستهدف “صمود الشعب السوري” و”انتصارات الجيش على الإرهاب”، لكن الحديث عن الهجرة لم يصدر في الواقع من خارج سوريا، بل أتى من شخصيات موالية ورسمية على حد سواء في الأسابيع القليلة الماضية، من بينها عضو مجلس الشعب السابق فارس الشهابي، الذي قال: “من يرفض الاعتراف اننا أمام كارثة هجرة جديدة للعقول والأموال أخطر بكثير مما شهدناه عام 2012 هو شخص منفصل عن الواقع”.

إلى ذلك، بث الإعلامي في قناة “العالم” الإيرانية، فارس زخور، مقطع فيديو له من المطار قبيل رحيله من البلاد، أوض فيه أنه اتخذ قراره بالهجرة بسبب “الشلل المهني” والوضع المتردي الذي وصلت إليه البلاد التي يسودها “حالة من اليأس والشلل الكامل، والقرف المقيت”، فيما ناقش مجلس الشعب موضوع الهجرة قبل أيام أيضاً.

وانتشرت أرقام لعدد السوريين المسافرين من البلاد قبل أن يتبين أنها أخبار زائفة، بينما تستميت حكومة النظام لنفي وجود تصاعد في الراحلين من البلاد، رغم فتح دول إقليمية كمصر والإمارات، أبواب السفر أمام السوريين مؤخراً. وبلغ الأمر حداً سوريالياً في تصريحات رئيس الحكومة حسين عرونس الذي قال أمام مجلس الشعب: “الأرقام الرسمية لدينا تثبت أن عدد المواطنين العائدين للمساهمة لبناء بلدهم، تفوق بكثير عدد المغادرين”، كما نفى في وقت سابق علمه بهجرة صناعيين ورؤوس أموال إلى الخارج، ودعا أعضاء مجلس الشعب الذين أشاروا إلى هذا الموضوع إلى تقديم معلومات دقيقة وبالأسماء، معتبراً أن الصناعيين الذين هاجروا فعلوا ذلك “بفعل الإرهاب وما ارتكبته التنظيمات الإرهابية في مناطقهم”.

ذلك التكذيب تناقض مع تصريحات رسمية أخرى، أبرزها حديث عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق ياسر اكريّم لصحيفة “الوطن” شبه الرسمية، عزا فيها موجة الهجرة الحالية لسياسة وزارة المالية التي “تفرض على التجار الذين خسروا أموالهم بسبب الحرب، ضرائب” مشيراً إلى أن الدولة هي من يجب أن تسند الاقتصاد وليس التجار. ولا يعتبر ذلك تناقضاً بالضرورة، بقدر ما هو جزء من خطاب متسق يصور الدولة السورية على أنها الحامية للفقراء في وجه الفاسدين.

ولا عجب في ألا يكون لدى النظام أي مشكلة مع موضوع الهجرة، طالما أن الموضوع يبقى في سياق الكتمان من دون أن يتحدث عنه أحد. وكتب المستشار في وزارة الإعلام مضر إبراهيم على سبيل المثال: “من يرد السفر فهذا شأنه، وخياره.. ولا أحد منا يحق له سؤاله أو لومه أو التدخل بحياته، لكن ليفعل دون أن يكون كلامه خنجراً آخر في صدر هذا الوطن المثخن بالطعنات”. ويصبح الحديث عن مشكلة جريمة تستوجب المساءلة ربما، أما هدف النظام فيصبح الحفاظ على صورة براقة لنفسه، مهما كانت تلك الصورة كاذبة إلى حد لا يمكن ربما لأكثر أتباعه إخلاصاً أن يصدقها.

المصدر” موقع المدن
قد يعجبك ايضا