بلطة توم كروز

جسر: ثقافة:

1990 أعلن توم كروز انضمامه لكنيسة السينتولوجي

لن تبدأ عروض فيلم Top Gun 2 قبل تموز (يوليو) 2020، ولكنّ شريطه الترويجي عُرض مؤخراً في مهرجان سان دييغو، وأثار لتوّه ردود أفعال متقاطعة لا تدور حول الفيلم ذاته بالضرورة، ولا ما يقترن به من دلالات سياسية حساسة بصفة محددة، خاصة لجهة الاتهام بالترويج للتكنولوجيا الصينية، أو ترجيح التفوّق العرقي هنا وهناك. إنها تُختصر إجمالاً في حساسية دائمة ترافق الممثل توم كروز، الذي يلعب الدور الرئيسي للمرّة الثانية، بعد الدور ذاته في نسخة 1986؛ أي إشكالية انتماء كروز إلى الطائفة المسيحية المعروفة باسم Church of Scientology، أو «العلمولوجيا» إذا شاء المرء عقد مقارنات اشتقاقية مع الإيديولوجيا والبيولوجيا والجيولوجيا…

وثمة ما يشبه التبادل بين نجومية كروز، وبين مسلسل الفضائح الذي تغرق فيه هذه الكنيسة مع عدد من المشاهير، وخاصة مشاهير هوليود وصنّاع السينما والإثارة عموماً، بالإضافة إلى الشكاوى التي تُرفع إلى القضاء ضدّ الكنيسة وشخص زعيمها دافيد ميسكافيج؛ بتهم عديدة متنوعة تتراوح بين الاختطاف والاستغلال الجنسي والاتجار بالبشر. وهذه حال استدعت ولادة منظمات مناهضة للكنيسة العلمولوجية، تتخذ بدورها تسميات عجيبة الاشتقاق؛ مثل «المانغولوجيا» التي يديرها الصحافي ستيف مانغو، ودأبت على تفضيح ممارسات كنيسة المشاهير، وكشف النقاب عن «الجرائم» و«الجنايات» التي ترتكبها منذ عقود.

هذه ليست طائفة دينية، يقول الكثيرون، بل هي شركة «بزنس» رأسمالها 400 مليون دولار؛ وأنشطتها تبدأ من المضاربات العقارية، ولا تنتهي عند بيع تعاليم العقيدة وقبض أتعاب مجزية مقابل شرح أصولها وفلسفتها. إنها أيضاً شبكة تخريبية تلحق الأذى العقلي والروحي بالمنتسبين إليها، وثمة في الولايات المتحدة عشرات الأعضاء السابقين ممّن اتهموا الكنيسة بغسل أدمغتهم أو تدميرها، وبعضهم حصل على أحكام بالتعويض، بملايين الدولارات. وهذه، في أحسن الأحوال، طريقة «علمولوجية» لاستنزاف الجيوب قبل العقول والأرواح؛ وهي، في أسوأ الأحوال، فرقة دينية خطرة، ولا تشملها معظم قوانين تنظيم الحريات الدينية في الديمقراطيات الغربية.

بعض من ذلك كلّه صحيح، خصوصاً وأنّ تعاليم الكنيسة أقرب إلى التخييل الفانتازي الحرّ، الذي يمزج العلم بالأسطورة؛ وأنّ مؤسسها، رون هوبارد، كان بالفعل كاتب خيال علمي. على سبيل المثال، رأى هوبارد أنّ الجسد مسكون بروحَيْن خالدتين: الأولى هي الكينونة الجينية التي تمتلك ذاكرة عرقية، وتترك في الدماغ مخلّفات تعمل على تشويه الوعي؛ والثانية هي روح الـ Thetan، التي هبطت إلى كوكب الأرض نتيجة مأساة رهيبة وقعت في الأعالي. وهذه الروح الثانية هي وحدها الحقيقية والخيّرة والخلاقة… لو أتيح لها أن تتحرر من إسار الجسد.

وفي فيلم سابق بعنوان «فالكيري» أدّى كروز دور الضابط الألماني كونت فون شتوفينبرغ، الذي أُعدم سنة 1944 بتهمة التآمر لاغتيال أدولف هتلر. لكنّ الإنتاج واجه مشكلات غير عادية، لا تتصل بملفّات الواقعة ذاتها، أو بمصداقية إعادة سردها كما في الكثير من الأفلام التي تتناول الحقبة النازية؛ بل حول صلاحية كروز نفسه لأداء الدور. وهنا لم ينبثق الطعن في صلاحية الرجل من أيّ تشكيك في كفاءته الفنّية كممثّل قدير، بل من حقيقة أنه ينتمي إلى الكنيسة إياها. الطريف أنّ أفراد أسرة فون شتوفينبرغ تنازعوا فيما بينهم، وعلى نحو ذهب بهم من أقصى الاعتراض إلى أقصى الموافقة؛ كما حين فكّر ابنه باللجوء إلى القضاء احتجاجاً على قيام كروز بدور أبيه، فردّ حفيده (من الابنة) بالموافقة على أداء دور ثانوي للغاية في الفيلم ذاته!

ولم يكن مدهشاً أن ينضمّ إلى موقف الابن عدد من الساسة الألمان الذين أعربوا عن القلق من قيام عضو في هذه الكنيسة بدور واحد من أبرز الشخصيات الأيقونية في تاريخ ألمانيا على امتداد القرن العشرين. السفارة الألمانية في أمريكا ذهبت إلى حدّ التصريح، في موقعها الرسمي على الإنترنيت، بأنّ هذه الكنيسة تقوم على «بنية شمولية» تجعل رعاياها غير مؤهلين للانخراط في إعادة تمثيل نزيهة لوقائع حاسمة تخصّ نظاماً شمولياً مثل الرايخ الثالث! غير أنّ حقيقة الاحتقان كانت تكمن في حال العداء الشديد بين ألمانيا وهذه الكنيسة تحديداً، والتي بلغت مستوى حرب ضروس تدور رحاها منذ سنوات طويلة.

والمرء يتذكّر ذلك الحدث اللافت الذي شهد نشر صحيفتَيْ «نيويورك تايمز» و«هيرالد تريبيون» إعلاناً موحداً على صفحة كاملة، مذيلاً بتوقيع 43 شخصية بارزة في ميادين الفنّ والأدب والإعلام؛ أدان الحكومة الألمانية بسبب ما تمارسه من قمع على هذه الكنيسة، وشبّه تلك الممارسات بما فعله النازيون ضدّ اليهود في أوشفيتز.

والصحيفتان في غنى عن التعريف بطبيعة الحال، وكلفة الإعلان فيهما بحجم صفحة كاملة تبلغ عشرات الآلاف من الدولارات، وأما الشخصيات التي وقّعت على البيان فقد ضمّت نجوم سينما مثل دستن هوفمان وغولدي هون، ونجوم أدب مثل ماريو بوزو وغور فيدال، ونجوم تلفزيون مثل لاري كنغ.

وصحيح، بالطبع، أنّ الأسلحة التي يستخدمها كروز في الفيلم الجديد شاملة التدمير وبالغة التعقيد تكنولوجياً، إلا أنّ استمراره في اعتناق فلسفة الكنيسة العلمولوجية وهذيانها حول الأرواح والأعراق والتواريخ، يحيل مدفعه الفتاك إلى بلطة عمياء عشوائية يحملها المحارب البربري كونان، حيث عصور الظلام والهمجية القصوى.

القدس العربي

قد يعجبك ايضا