جرح الحياة وتراجيديا الإنسان في رواية “جمهورية الظلام”

عبد الحفيظ بن جلولي

أن نكتب رواية معناه التحضير التخييلي لمادة منشؤها الواقع، لكنه مجرد من خاماته الواقعية، لأن الأحداث تُفرز فنيا من الخيال، لكن ألا يمكن أن تُخرق هذه القاعدة؟ قراءة رواية «جمهورية الظلام» لفواز حداد، تجعلنا حائرين على تخوم هذا السؤال، مكثفين بالألم الذي نحاول تكييفه فنيا كي نقنع أنفسنا بأن ما قرأناه ليس واقعا، بل محض خيال.

الواقع أكثر خيالا من الخيال أو متخيل الرعب:

جملة البداية في «جمهورية الظلام» تكشف ما تختزنه الرواية من أحداث تتداخل مساراتها وتُفك، لتقول شيئا واحدا يُختصر في «الرعب» أو تجاوزا لمسايرة الطبيعة الفنية في السرد نستعمل «متخيل الألم» «كاد أن يقول له: أسلمت نفسك للموت، لا شيء سينقذك» انفتاح تام على عالم الموت، يجعل القارئ على تماس مع اللحظة الأولى التي أنتجت هذا النص، فواز حداد يضع مخططا لرواية تستجيب للمتخيل، لكن زحمة الوقائع واختلال توازن اللحظة التي عاشها وضياعها بين الوداعة المتحللة والرعب المهيمن جعل متخيله يخضع لكثير من الواقعية التي يكشف عنها مقتطف العنوان في مباشرَته «جمهورية الظلام».

هذه الرواية، التي كُتبت على مسافة زمنية من بداية الأزمة، وهو ما يخرجها من دائرة «الرواية الاستعجالية» فالروائي بعد تأمل وملاحظة وفرز، انصاع لفعل الكتابة التي تفيض رعبا بما وقع عليه من وصف للفرد المطحون تحت دواليب آليات التعذيب، وللأعماق النفسية للشخوص، سواء القاسية أو اللينة، ولتوريط القارئ داخل أجواء ما يكون قد عايشه أصلا يقدم شخصيتي المحقق والمعتقل في بداية الرواية دون أسماء، ليكثف من ظلال الغموض الذي يشمل «جمهورية الظلام» ولعل القرب من الوقائع جعل سؤال الفرق بين الرواية والسيرة الذاتية ملحا لمثول الأحداث بالنسبة للمتلقي، الذي تابع فظاعاتها عبر وسائط الميديا المختلفة التي تجعل الحدث عبر الصورة مستمرا في الذاكرة.

نكتشف في ما بعد أن سامر سافان (المحقق) يمثل صوت الضمير، أو كما وصفته الرواية «أقل المحققين بطشا» الذي يحاول من داخل منظومة الرعب أن يكون عنصرا يمنع على الأقل التدفق العنيف لرد فعل السلطة المنفلت من كل معيار للعدالة، هذا العنصر الآمن لم يَرِد إلا لتلغيم بؤر الرواية بما يمكن وصفه «وداعة» لتتكشف فظاعات ما تتعرض له البنية الاجتماعية من محو ممنهج تحت طائلة سياسة «البراميل المتفجرة». يأمر المحقق بقلع أظافر المعتقل لعله ينطق بما يريد أن ينقذه به من هلاك أكيد، لكن الرواية تستدرك في عمق نفس المحقق الذي يحوز ضميرا لكنه «مرن» أي يشتغل ضمن نطاقات تمكنه من عدم الوقوع بين براثن الرعب، وفي الوقت نفسه يحاول جهده أن يكون في جانب «المستضعفين» الاستدراك في أن المحقق وهو يطالب بضميره «المرن» المعتقَل صاحب الضمير «الصلب» بالاعتراف بما يسيء إلى ضميره، ومن ثم آثر الانتحار، أنه تناسى «أن للشاب كرامة».

جرح الحياة والتراجيديا الإنسانية:

ما الذي يجعل الروائي يستعيد فواصل الرعب الجاثمة على مجتمع ما، موثقا مساراتها عبر العمل الفني؟ هل يستطيع السرد أن يترجم المأساة الإنسانية مهما كانت قوته؟ تبرم الرواية ميثاقا أدبيا بين الروائي والقارئ بجعل هذا الأخير لا يكتفي فقط بالعلم بالتراجيديا، بل يعيشها، يجري ذلك عبر وحدات سردية تشكل مركز ثقل الرواية، فما يجري في أقبية البنايات التي تمثل رمزيا القبور، لا يمكن أن يقوم تصوره إلا في ما نعتقد أنه فيلم يُعرض على شاشة. تتحول الرواية في مرحلة من مراحل القراءة إلى هذا المنحى، فتداخل مسارات الشخوص بحيث هناك الذي خرج عن طور الإنسان وصار آلة للتدمير والدعس وذاك الذي يقع في المنتصف بين الأشياء أو من تطلق عليهم الرواية أصحاب «الضمير المرن» ثم تفجر بؤرة الحب وتجلياته المدروسة بعناية من قبل الروائي، وفنجان القهوة الذي يصبح دعوة مبطنة للجنس، والعمارة عندما يرد ذكر الأماكن التاريخية في دمشق، تلك التي تجعل القارئ على حالة خاصة مع المكان الفانتازي الذي يرتحل في الزمان، مشكلا عبق التاريخ، هذه البانوراما الحدثية تكثف من «الملهاة الإنسانية» أو «الكوميديا» التي يرقص الإنسان في ضحكها باكيا، وفعلا «جمهورية الظلام» تحيل على «ضحك كالبكاء» وفق سخرية المتنبي.

قد نقرأ في أنسكلوبيديا الموت عما قد ينتاب الممرض أو الطبيب من إحساس يطلق عليه فرويد «الجرح النرجسي» لكن ما سينتاب القارئ للرواية يفوق هذا الجرح، إنه جراح تتعدد مسمياتها بعدد الأسئلة التي تُطرح، وأولها ما قرأه المحقق في عيون الشاب المنتحر: «الحياة انتهت، ولا جدوى من إطالتها. لا يصح البقاء حيا، فلاقى حتفه مطمئنا». كيف تنتهي الحياة بالنسبة لشاب ما زال يكتشف حدود فضائه وأشكال الحركة فيه؟ وكيف داخل عناصر هذه الحركة تنفقد الجدوى، بل كيف يكون القرار حاسما في عدم صحة البقاء حيا؟ هذه الأسئلة تقوم على فكرة واحدة وهي فقدان الأمل في مجتمع يصح أن تنطبق عليه هذه الصفة بكل مكوناتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، لفقدان الحرية والعدل والمواطنة، والأكثر من ذلك أنها تضع الفرد الواقع تحت هيمنة الديكتاتورية في تماس دائم مع صورة المجتمع المنغلق على الطغيان تحت رجليه، والمتحقق طواعية في البقاع الرافلة بالقانون والديمقراطية، ولهذا في عمق القبو، حين لا يتسع المكان سوى للاحتضار أو الموت، بعد أن يثبت المحقق ما يراه من صور انتهاء الحياة، موت المريض بالإسهال ضربا لأنه عكر صفو الجو برائحة نتانته، وجثة العجوز، يهمس في وعي التلقي الرابض على هامش «الوعي الشقي» بتعبير عبد الكبير الخطيبي: «أما الشاب الميت فما زال ميتا» لفرط الإحساس بفقدان الأمل في الحياة، أو فقدان التواصل مع الحياة، حيث الحياة ليست فقط الجانب البيولوجي المكرس في الوظائف الحيوية، الحياة وعي بالكينونة، حرية وعدل ومساواة ومواطنة، بدا الموت بالنسبة للمحقق باعتباره «ضميرا مرنا» برهة من نوم قد ينبعث بعدها الميت حيا ليعانق الصور التي تتيح له الحياة الحقيقية، أو البراغماتية، تلك التي تقوم على «العقد الاجتماعي» بين من بيده السلطة، ومن ساهم في كينونتها عن طريق الإرادة الحرة. سؤال الموت في الجملة السردية الفائتة تتصارع فيه صورتا الشباب والموت، البداية والنهاية، القوة والضعف. يحدد المعنى في الجملة المسافة بين الحياة والموت، باعتبار المُنجز، فما ننجزه نستمر به حتى بعد مغادرتنا الحياة، لكن لنتخيل مع الروائي حياه منجزها الموت.

الفرح الإنساني في مواجهة الرعب

لا تنفك رواية «جمهورية الظلام» تبحث عن بارقة لأمل يحمل معنى الحب والجمال والقصد في الإنسانية، لذلك لا تعدم استحضار الصور التي يمكن أن تتغلب على ما هو قائم تماما كما حدث في رواية «ملكة الفوعة تلميذ بنش» حين يرمي شعبان عبود برشقات الحب في طوفان الحرب، وهو، كما يبدو لي، اتجاه يحاول أن يستشرف سوريا ما بعد الأزمة لتهيئة الوضع لمناخ إنساني يتجاوز الطائفي بكل تجلياته الدموية، إلى ما هو إنساني بكل بساطته المواطنية في تمكين سلطة الضمير. في منعطف سردي مكثف بالمأساة في صور كوميدية سوداء، تنعرج الكتابة نحو الذي لا يمكن أن تأخذه الرواية بعين الاعتبار، ليس على مستوى الأحداث المتفرقة الهامشية بالنسبة للحدث المركزي «جمهورية الظلام» لكن في حلكة الظلام تنبت زهرة للضمير، إن الفرع 650 انبثقت فكرته داخل أقبية الرعب باعتباره محلا ومولدا له، لكن هذا الفرع مختلف وفق طبيعته، فهو للأدباء لجعلهم زوارا ذوي طبيعة خاصة يُتعامل معهم وفق معايير الثقافة لا كلاليب الاعتراف، فاجتمع فيه المقدم والمحقق والمفوض، وجميعهم تقبس فيهم شعلة من نار الضمير ولو «المرن» بتعبير الرواية، فالمقدم كان يريد أن يعيد بوصلة الأخلاق للأديب، ثم استطاع المفوض أن يجلبه إلى عالم الثقافة فتجلت أمامه الحقائق الإنسانية في الثورة على الظلم، ثم المحقق اتهم بأنه يحابي المعتقلين ويتساهل معهم، والمفوض بخلفية ثقافية يستطيع، ووصل فعلا إلى التمييز بين الضمير والظلم، المثير في عالم الشخوص الضميري أنهم ثلاثتهم يعيشون قصص حب.

إن الرواية لا تشعب الحدث فقط لأجل تثوير وتعميق المسار السردي وتنويع النسيج الحكائي، وإن كان هذا واردا لأنه من عناصر الرواية، لكن ونحن نتابع حركة السرد وتداخل الأحداث وصراعات المصائر، نرى ظل الروائي يمشي بين أطلال الإنسان المنهك ويستحضر صورة تنبع من ظلال الخروج الحالم من متاهة الظلام إلى كوة النور مهما كانت صغيرة، ففي الفرع 650 يرغب المقدم في إطعام المعتقلين، وفي عملية جمع للمؤونة تكشف عن مدى التوحش الذي خلفه طمع الفرد في الاستئثار بكل شيء، كل ما نجا من هطول «البراميل المتفجرة» من ماشية وحيوان كان هدفا للبطون الجائعة، ففي حفلة شواء لم يصدقها المعتقلون، تحيل الرواية إلى الماضي حين كان المعتقل إنسانا، «وإن كانت حاسة الشم قد نبهتهم إلى أن عقابهم الحقيقي هبط عليهم من روائح الكباب حاملة معها ذكريات سيارين الغوطة، والنراجيل على ضفة بردى، وتبريد البطيخ في النهر، وتراشش الأطفال بالماء، عقوبة مصفاة بالحنين المر». هذه الذاكرة هي التي استبدت بالروائي لحظة كتابة الذات وهي محاطة بأنواع الإحباطات كافة، وفي غمرة المعنى تسطع جملة تتجلى فيها إمكانات «الحنين» مهما كان مرا في القدرة على فتح باب نحو الإنسان الذي كان، والعاجز والمكبل حاضرا بقيود الرعب، لا يمكن أن تموت تلك الصورة على «ضفة بردى» ولا يمكن أن يصيبها العجز ولا الرعب، إنها مستمرة، يحملها العاشق للوطن إحساسا يمثل الوطن والإنسان اللذين هما مادة المقبل في فرح الضمير.

الحب وعتاقة المكان أو البحث عن الإنسان:

اشتغل الروائي على تقنية تشبه الملف في عرض الشخصيات، فكل شخصية يظن القارئ أنها عابرة وبعد شوط من القراءة يكتشف أن الروائي فكك مسارها، بحيث يقدم جذور وظيفتها السردية، فكل من المحقق سامر والمهندس وحنان ورفيف والمفوض وغيرها من الشخصيات تطورت سرديا من خلال التفتيق الشخوصي لعالمها الخاص، وهو ما يعني أن معمار الرواية يأخذ شكل التحقيق الذي تتطلبه طبيعة الكتابة في موضوع حساس وسياسي يتعلق بالديمقراطية والحرية والعدالة والمواطنة، في فضاء تنعدم فيه الإنسانية أصلا، فالعودة إلى معرفة جذور الشخصية وطبيعتها يمثل حالة من حالات البحث عن الإنسان ذاته، ذاك الذي يتأثث واقعيا على «ضفة بردى».

لا تكتفي الرواية بالتحقيق في جذور الشخصية، بل تعمد إلى تقنية أخرى وهي الجمع بين المكان التاريخي والخيانة في الحب، فنجد أن شخصية (ف .ح) وهو محقق جاء ليحقق في تهمة تتعلق بتساهل سامر المحقق مع المعتقلين، في أحد مشاهد الرواية يرافق سامر (ف .ح) ويمشيان ثم «قبل أن يقطع الشارع نحو سوق الحميدية، عرج إلى بناء عتيق، كتب على واجهته في العالي (مقهى القلعة)» يبرر (ف .ح) مجيئه إلى هذا المكان بدافع شخصي، «انظر إلى هذه الطاولة المقابلة لنا، هنا بدأت قصة بين رجل وفتاة..» القصة بينهما تنتهي بخيانة العلاقة من طرف المرأة. لا شك في أن اللاعب الرئيس في الأزمة السورية هو الرجل، قد تُنبه الرواية إلى جانب مهم في علاقات السياسة والديكتاتورية، بحيث عندما تُفرغ العلاقات كيفما كانت من «التوازن العاطفي» متعدد الأوجه تحدث الكارثة، لأن المحقق سامر سيجد حبيبته حنان بين يدي المقدم في مطعم «جنة الياسمين» في دمشق القديمة، والمقدم يمثل السلطة في أعلى مستوياتها، وسيقع في براثن حب حنان، وهو ما لا يستقيم في شخصية الطاغية، تماما حينما نذكر شخصية إيفا براون في حياة هتلر، ما طبيعة الحب الذي يقع فيه الديكتاتور؟ كيف يجتمع الحب مع الرغبة العارمة في الإبادة والتحكم المطلق في الأرض والعباد؟ لا بد من أن الروائي وهو يتابع تطورات الوضع في وطنه سرديا، انتبه إلى المكان التاريخي أو «عبق التاريخ» لماذا إنسان التاريخ والحضارة، يتحول إلى هذا المستوى من الشراسة والرعب؟ لا تقدم الرواية طرحا، لكنها تترك فضاء التأويل مفتوحا لإمكانات بدائل في طرح إجابة محتملة، والإنسان لا يتعالق مع أي مكان، إنه يرتبط بمكان/ذاكرة، تاريخي على الأقل بالنسبة له شخصيا، والمعضلة الكبرى أننا نهمل هذه العلاقة في تفسير تحولات الإنسان، عدم ارتباط الإنسان بالتاريخ، وبالتالي بالمكان كمنجز تاريخي هو ما يجعله غير ذي علاقة حبية أو عاطفية مع المكان وبالتالي مع الإنسان، فتنخلق العلاقات المشوهة المبتورة من الجذر الإنساني.

الحضور التخييلي للروائي

يبقى ما عرضته الرواية من وقائع مرعبة ومسارات محزنة ومصائر مميتة للشخوص خيالا رغم تعاطف القارئ، إذ ما إن يضع الروائي نقطة النهاية حتى ينسدل ستار ما أورده من مأساة لتبقى الرواية ذاكرة يؤكدها الفن، باعتبارها منتج الخيال، وهو ما حاول الروائي تجنبه مؤكدا للقارئ واقعية الوقائع، وينكشف ذلك ابتداء من انغلاق المعنى في جملتي البداية والنهاية على الموت، «كاد أن يقول له: أسلمت نفسك للموت..» «إذا اعتقدت أنك تتوهمها، فهل كان كل هذا الموت والدمار متخيلا؟». فعنصر الموت يعتبر فاصلا في تكريس واقعية الرعب والدمار والخوف، إذ لا يريد الروائي أن ينفصل القارئ عن سوداوية الحكي الذي ليس من خيال، بل يتغذى منه لضرورة فنية، وهو ما جعل «المحقق سامر» يتعاطى طيلة أحداث الرواية، ومنذ أن يظهر (ف ح) على مسرح الأحداث على أنه شخصية ربما متخيلة بالنسبة إليه، ولطيبة هذه الشخصية يقلب الفاء خاء اجتهادا منه لتتوافق مع ما قصده فيها من خير، فيصبح (ف .خ) فاعل خير، إلى أن نكتشف مع سامر أن (ف ح) هو فواز حداد الذي يعيش الأحداث بعيدا عن فواز حداد الموجود في الخارج والذي يحرص على أن يكون هناك أثر للإنسان الذي يوجه المصائر، عكس عقارب اليأس الذي يخيم على النفوس، ومن ثمة فإن الحضور الواقعي لشخصية الروائي بين الشخوص الورقية يضع القارئ على التخوم بين الواقعي والتخييلي، متسائلا عن وجود الروائي داخل المتن، وهو ما يرومه فواز حداد من جر القارئ إلى منطقة ليس الإيهام بالواقع في النص التخييلي، بل ربط النص بما يجري في الواقع.

إن اسم الناص من العلامات التي تقدم العمل السردي إلى العالم وتجعل حضوره فيه ممكنا، حسب جيرار جنيت، وبالتالي يتماهى النص التخييلي مع الاسم الواقعي فيكون الإيهام بالواقع مقنعا بالنسبة للقارئ المتشبث بخيالية الرواية.

المصدر: القدس العربي

قد يعجبك ايضا