حليب أبيض وتاريخ أسود

وفاء علوش

منذ مدة ليست بقصيرة أصبح الخبر السوري غير ذي أولوية بين كثير من الأخبار، وبدا من الواضح أن الحكاية السورية التي أصبحت أزلية نوعاً ما، جعلتنا متصالحين مع الموت والتجاهل المستمر للسوريين، لأنه لا يشكل عائقاً لاستمرار الحياة لتكون هي الأخرى عجلة مسرعة تدعس السوريين حيثما حلّوا بأزمات مختلفة ومتعاقبة.

اختبر السوريون بعد القتل والاعتقال والتهجير والنفي والاستبداد والكوارث الطبيعية، الحرب في بلدان اللجوء التي اعتقدوا أنها ستكون ملاذاً آمناً وأخيراً بعد أن عجز العالم أو تجاهل رغبتهم في حياة مستقرة، ومع وجود كل تلك العوائق استطاعوا البدء من جديد، وحاولوا غرس جذورهم في بلاد جديدة ومحيط غريب قد يكون غير متقبل للغرباء في أحيان كثيرة.

البلدان التي استقر فيها السوريون في أوروبا ربما لا تقل سوءاً بصعوبات الحياة والتعايش والاندماج، غير أنها تتمتع بقانون ودستور يهيئان الوسط لاستقبال لاجئين حتى وإن كان الوسط الاجتماعي رافضاً لذلك.

في المقابل بقي العدد الأكبر من السوريين النازحين والمهجرين متناثرين في دول الجوار أو في مخيمات اللجوء على الحدود، ومنهم من تمكن بشق الأنفس من الوصول إلى دول فتحت له أذرعها واستقبله أهلها بحفاوة، لكنها ومع الأسف كانت دولاً غير مستقرة أمنياً أو لديها ما تعانيه من المشكلات الاقتصادية والسياسة.

هذا ما اضطر السوريين ممن تقطعت بهم السبل إلى ملازمة منازلهم بسبب الاشتباكات التي اندلعت في السودان منذ منتصف نيسان/ أبريل الجاري بين الجيش وقوات الدعم السريع، بعد حالة وفاق بين الطرفين اتفقوا خلالها على إدارة شؤون البلاد معاً، لكن الخلاف الحاصل اليوم لا يدفع ثمنه أطراف الاقتتال فحسب وإنما يدفع فاتورته السودانيون والمقيمون هناك أياً كانت صفتهم القانونية.

يعيش في الخرطوم وباقي مناطق السودان أكثر من 90 ألف لاجئ سوري، وفقًا لأرقام الأمم المتحدة لعام 2021، لكن الأرقام الرسمية لا تتسم بالدقة تماماً وقد يكون العدد أكبر بكثير مما هو مصرح به ذلك أن الضوابط في تسجيل القادمين للجوء ليست معيارية، كما أنها قد تفتقد إلى المصداقية فيما يخص ما تقدمه المنظمات من مساعدات وتسهيلات في دول تعاني من فساد أو نهج متبع في تجاوز القوانين.

يرغب أغلب السوريين بأن تكون تلك الدول معبراً لهم قبل الحصول على تأشيرات قانونية للجوء إلى دول الاتحاد الأوروبي أو أميركا وكندا، لكنهم يصطدمون ببيروقراطية المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين وطول زمن معالجة الملفات الأمر الذي قد يضطرهم إلى الاستقرار بشكل نهائي في بلد العبور مرغمين، أو بسبب إغلاق باب السفارات في وجوههم لوجود معايير مبهمة لقبول واختيار المرشحين المحتملين لمنح التأشيرات، ما يثبت تناقض ادعاءات تلك الدول أو رغبتها الحقيقية باستضافة المتضررين الذين يحتاجون إلى مساعدة عاجلة.

ما يمكن أن يشكل مأزقاً حقيقياً هو أن تلك الدول التي تعد حلماً لعدد كبير من السوريين بسبب عدالة القانون وتكافؤ الفرص، قد لا يعكس مظهرها في وسائل الإعلام حقيقتها وجوهرها.

منذ منتصف الشهر الجاري أيضاً، بدأت النمسا بمحاكمة خمسة مسؤولين لحمايتهم ضابطاً سورياً متهماً بجرائم ضد الإنسانية، لأنهم سهلوا دخوله إلى البلاد بمساعدة جهاز الاستخبارات الإسرائيلي مستغلين نفوذهم ومسيئين استخدام سلطاتهم.

وعلى أنهم يخضعون للمحاكمة اليوم، إلا أن ذلك لم يكن ليتحقق لولا فضح الملف من طرف “اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة”، وهي منظمة حقوقية كانت تتابع دعاوى شخصية حركها ناشطون ضد شخصيات متهمة بجرائم ضد الإنسانية.

كانت المنظمة قد أبلغت الحكومة النمساوية عن ذلك في كانون الثاني من عام 2016، كما أوضحت المعارضة النمساوية في انتقادات وجههتها إلى الحكومة في البرلمان، أن الضابط السابق في جيش نظام الأسد هو العميد “خالد الحلبي”، الذي تؤمن النمسا الحماية له منذ العام 2015.

تلقى “الحلبي” الاهتمام والرعاية من الموساد الذي كان عراب عملية “حليب أبيض” التي أوصلت الحلبي إلى موطنه الجديد، وضمن له حياة رفاهية بالتعاون مع الحكومة الاتحادية لحماية الدستور النمساوي التي رفضت إلقاء القبض عليه، على الرغم من صدور أمر من المدعي العام بناء على ما قدمته المنظمة من وثائق.

تشير القرائن أيضاً إلى تعاون جهازي الاستخبارات الفرنسي والإسرائيلي منذ البداية، ومحاولة الضغط لحمايته بدليل دخوله فرنسا مستقلاً الطائرة، وقد كاد يحصل على حق اللجوء لولا أن اضطرت فرنسا إلى التراجع بدعوى أنه يسبب لها حرجاً أمام المعارضة والرأي العام، ليُصار إلى تهريبه إلى النمسا بسيارة تحمل أرقاماً دبلوماسية.

لم يكن “الحلبي” وحده من حصل على امتيازات على الرغم من إدانته بارتكاب العنف الجنسي والتعذيب وارتكاب المجازر الوحشية أثناء إدارته لجهاز أمن الدولة في الرقة، بل أن المحاكم طالت كثيرين مثل “علاء موسى” و”إياد الغريب” و”أنور رسلان” وآخرين في مختلف دول أوروبا، الذين لم يمنع ماضيهم الدموي الدول التي تدافع عن حقوق الإنسان من منحهم فرصة ثانية للحياة، كان من الأَولى أن تكون من حق أولئك الذين يقبعون على الحدود ويعيشون في خيام أقل ما يقال عنها إنها لا توفر شروط حياة إنسانية، لكن واقع الحال يثبت أن السوريين ليسوا جميعاً “حليباً أبيض” يستحق الحماية وتأمين فرص ثانية للحياة، فالسوريون لدى العالم أيضاً درجات ومراتب مثلما كانوا في وقت إقامتهم تحت سطوة نظام الأسد.

لماذا يضطر السوريون إلى خوض مثل هذه التجارب في وقت تمنح الدول التي تدعي الشفافية واحترام القوانين حق اللجوء لمجرمين ارتكبوا الفظائع بحق السوريين؟ وهل من الممكن أن تلك الدول تجهل أو تدعي عدم المعرفة بما يخص تاريخ من تمنحهم حق اللجوء؟ خاصة أنها تخضع طالبي اللجوء إلى محاكمات طويلة يحققون فيها في أدق تفاصيل الشخص، مع الإحاطة بصورة كاملة عن خلفيته وطبيعة عائلته وأصدقائه ودائرته المقربة، كما يخضع بعد قبول ملف لجوئه إلى رقابة كاملة لمتابعة التزامه وانضباطه والتأكد من صدق ما ادعى.

هل يعقل أن استخبارات تلك الدول كانت تجهل خلفية وماضي “الحلبي” وأمثاله؟ أم أنها _ويحق لنا الشك في أهدافها _ قد منحته اللجوء عن دراية معتمدة على عدم انكشاف الحقيقة خاصة وأن الملف السوري أصبح ثانوياً في الأروقة الدولية.

لم تعد القارة الأوروبية حلماً للنجاة فحسب، بل أصبحت مسرحاً للمنازعات القضائية بين السوريين الناجين من الموت وبين المجرمين الذين بذلوا جهدهم لقتلهم، وعلى الرغم من أن الغالبية اليوم يدركون أن لكل نظام ثغراته وفساده الخاص وضحاياه، لكن ذلك لن يشكل عائقاً في السعي لتحقيق العدالة للسوريين بمختلف انتماءاتهم.

المصدر: تلفزيون سوريا

قد يعجبك ايضا