سوريا التي لم تكن سوريا

 

جسر: رأي

 

حين يُحدث المرء نفسه قائلا: هل نحن نشهد نهاية سوريا التي نعرفها؟ عليه أن ينتظر من نفسه سؤالا ثانيا: ولكن أي سوريا كنت تعرف؟ فقد كان البعث جاثما على هذه الجغرافيا السياسية والاجتماعية، ومانعا أي نوع من المعرفة بها.

أما السنوات التي اهتز فيها هذا النظام، فكشفت عن أن دولة البعث هذه لم تفعل طوال سنوات حكمها لهذه الـ”سوريا” إلا ما يجعل العلاقة مستحيلة بين أجزاء الدولة الوليدة. وها نحن اليوم حيال خريطة من الدماء لا تفسح مجالا لأمل أو لاحتمال آخر غير مواصلة الحرب.

أي مستقبل ينتظر العلاقات بين عرب الجزيرة السورية وبين كردها؟ الدماء تطغى على مشهد هذه الصحراء، والفرات الذي يفصل بين شرقها وغربها، والذي كان البعث قد عبث بأهله وبمجراه، يشهد اليوم قدوم عابثين جددا، بعضهم قدم من بعيد من أمثال فلاديمير بوتين، وبعضهم عبر الحدود القريبة مصطحبا معه جنودا سوريين، هو طبعا رجب طيب أردوغان وصحبه من الإخوان المسلمين.

وعابرا الفرات هذين اتفقا على خريطة الحرب، ولكل منهما سوريوه. الحرب تبدأ هنا وتنتهي هنا، قالا لبعضهما بعضا. الرقة لك، ورأس العين لي! الدماء يجب ألا تفيض عن هذه القسمة، وسوريو كلا الرجلين يجب أن لا يطمحوا إلى ما يتعدى هذه المهمة.

ما يلوح خلف هذه المهمة من مصالح جرت رعايتها تحت أنظار جماعات سورية، يضاعف من حال اليأس من احتمال قيامة قريبة أو بعيدة لهذا البلد! شريط سكاني عربي يفصل بين تركيا وبين الأكراد السوريين. تسليم النظام ومن خلفه الروس المساحات المتبقية من شمالي سوريا. لم نعد هنا في مجال التوقع والتحليل، فالخريطة بدأت ترتسم. تركيا تقدمت والنظام دخل إلى مدينة الرقة.

الفزعة الغربية لن يطول أمدها، فلطالما تكيفت أوروبا مع انقلاب أوضاع بلداننا، وما يعرضه عليها أردوغان مغريا، ذاك أن توطين نحو مليوني لاجئ سوري في الحزام الحدودي سيقيها من تدفقهم على بلدانها. خنق الأكراد وبعض مشاهد العنف ستقابل بذهول لن يطول أمده. على هذا النحو حدّث بوتين وأردوغان بعضهما بعضا عندما تقاسما الخريطة. والأرجح أنهما محقان.

الحرب اليوم تجري في ظل تفاهم رعاتها. المقاتلون يقتلون بعضهم بعضا في مهمة محددة ودقيقة، وغير مسموح لهم تجاوزها. العبث بأحوال المدنيين أمر مسموح به، أما العبث بالحدود الجغرافية للحرب فيجب أن تكون خارج طموحاتهم. ووحدهم أكراد الجزيرة سيكونون بين فكي كماشة التفاهم التركي الروسي على مستقبل مدنهم وقراهم.

لكن المساحات التي سيخلفها التوزيع الجديد للقوى والجيوش في الجزيرة السورية لا يمكن ضبطه بتفاهمات لا يمسك أصحابها بكل الخيوط. العراق قريب جدا من هذه الجغرافيا. العراق السني، والعراق الكردي. وطهران ليست على تفاهم كامل مع موسكو حول خريطة النفوذ هذه، وواشنطن المنسحبة لا تستطيع الابتعاد كثيرا. لدى الاتحاد الديمقراطي الكردستاني فرصة للعب في هذه المساحات، ولدى “داعش” أيضا فرص كثيرة وسط هذه الكثبان الهائلة.

لطالما تدفقت الجيوش على هذه الصحراء. في السنوات العشر الأخيرة تعاقب على حكم هذه المناطق جيش النظام ثم الجيش الحر ثم جبهة النصرة ثم “داعش” إلى أن استتب الأمر لـ”قسد”، وها هي الأخيرة تنكفئ مفسحة المجال لقادمين جددا الأرجح أن إقامتهم لن تتطول.

لكن الجيوش لم تعبر من شرقي الفرات وتنهزم فيه من دون ندوب. للبعث ندوبه وللنصرة و”داعش” أيضا. وحقبة “قسد” لم تخل بدورها من انتهاكات، وها هو الطوفان يعيد البعث ضمن دورة تعاقب الدول والأمم على حكم هذه الأرض الشحيحة نفطا والغزيرة دماء.

المهمة اليوم أصعب. أنت تحكم في شرقي الفرات، فأنت تقف على رأس مجزرة راحت تتناسل منذ أكثر من عشر سنوات. خطوط الدم مرتسمة على مختلف الأصعدة. عشائر “داعش” التي قتلت عشائر النصرة ثم عادت وقُتلت على يد عشائر قسد، متحفزة اليوم للانتقام. العرب متحفزون للانقضاض على الأكراد، والأخيرون لن يجدوا لا ريحا ولا جبالا لمُصادقتها. للنظام ضغائنه، ولتركيا أيضا، والجميع يطمح بمقتلة جديدة يكرس عبرها نفوذه ومصالحه.

لا أفق سياسي لدورة المجازر هذه. لن تستقيم السلطة كثيرا لأصحاب الخريطة الجديدة. سيولد شيء لا نعرفه يعاود خلط الأوراق. نظرة سريعة على خريطة توزع النفوذ الجديد ستُشعر المرء أن ثمة شيئا ناقصا في هذه “التسوية”. ثمة مساحات خارج الضبط وخارج حسابات موسكو وأنقرة. المهزومون كثر، والمنتصرون كثر أيضا. وثمة مصالح لا تجمع المنتصرين، ومصالح أخرى تجمع بعضهم مع مهزومين افتراضيين. هذه الحرب تؤسس لحرب أخرى. وسوريا التي لم تعد سوريا والتي لم نكن نعرفها، لم يحن بعد موعد معرفتنا بمستقبلها.

المصدر موقع الحرة

قد يعجبك ايضا