سيادة ووحدة الأراضي السورية.. آخر ضحايا كورونا

رأي- عبدالناصر العايد

اعلنت موسكو أنها تدعم على خلفية تفشي وباء كورونا، تحركاً دولياً لإعلان هدنة عالمية في مناطق النزاع، تأتي سوريا في مقدمتها. اتفاق دولي كهذا، سيعزز فرصة تجميد القتال في سوريا، والانتقال إلى “استقرار” دائم للوضع الراهن، أي اقتسام سوريا بين القوى المتداخلة فيها. وبهذا، تغدو استعادة وحدة التراب السوري، تحت حكومة ذات سيادة، مهمة صعبة للغاية، إن لم تكن مستحيلة.

 

أضاف انتشار فيروس كوفيد-19 شرطين جديدين على الحالة السورية؛ تجميداً للقتال ما حدّ من فاعلية الكيانات العسكرية المحليّة المعتاشة من أنشطة الحرب واقتصادها، وتقييداً للتنقل ما عزز الانفصال بين المناطق الموزعة بين دوائر نفوذ القوى الخارجية. الشرط الأول سيعقبه تفكيك المليشيات المحلية الوكيلة، وإلحاقها بالقوات الأجنبية الرسمية المتواجدة على الأراضي السورية، بعد تجريد المليشيات من الأجندات السياسية وحصر مهامها بوظيفة فرض الاستقرار في المجتمعات المحلية. في حين يعزز تقييد التنقل، فصلاً اجتماعياً وإدارياً وخدمياً واقتصادياً وثقافياً، ليصبح ارتباط كل إقليم بالدولة المهيمنة عليه، أكبر من ارتباطه بجواره السوري، مع تكريس غياب المركز وسلطته.

موسكو: مقاولين عسكريين

لم يكن الهجوم الروسي الإعلامي، من دوائر قيل إنها مقربة من الكرملين، على رأس النظام السوري، معزولاً عن التطورات على الأرض. إذ لم يعد نظام الأسد منتجاً حتى للشرعية الرمزية للتدخل الروسي في سوريا، بعدما باتت السيادة طي النسيان، وليس أدل على ذلك من تسريب الروس مقاطع وصور عن لقاءات الأسد وبوتين في سوريا.

موسكو أدارت ظهرها لتطلعات بشار الأسد بالسيطرة على ما تبقى من الأراضي السورية، تمهيداً لإجراء انتخابات 2021 الرئاسية العتيدة التي “سيفوز” فيها. وباتت تحكم إدلب مصالح استراتيجية تربط موسكو وانقرة، أما شرقي البلاد الغني بالنفط، وميدان الصراع مع واشنطن، فالأكراد والعشائر العربية هما القوتان اللتان أدركت موسكو أهمية الاستثمار فيهما للوصول إلى غاياتها الاستراتيجية.

الوعود الروسية لأكراد الجزيرة تتضمن الاعتراف بحقوقهم القومية وإمكانية ترك “الإدارة الذاتية” بحكم المستقلة، مقابل أن يدين الأكراد بالولاء للمركز الروسي العسكري في مطار القامشلي. كذلك، أطلق الروس حملة مكثفة لاستقطاب العشائر العربية، ويزورهم حالياً وفد عسكري روسي رفيع المستوى، لتشجيعهم على التجنيد في تشكيل عسكري روسي جديد، يتبع للمركز في القامشلي مباشرة، ولا صلة لنظام الأسد به.

إيجاد مراكز قوى روسيّة في سوريا بعيداً عن الأسد، بدأ سابقاً مع تأهيل العميد سهيل الحسن، ليكون الذراع الضاربة لموسكو في قوات النظام، ورجلها القوي في الطائفة العلوية. ومع توقف العمليات العسكرية، يمكن لموسكو ترتيب حالة استقرار على بعض الجغرافيا السورية، بلا مزاحمة من بشار الأسد بدعوى السيادة والشرعية. وهكذا يتسنى لروسيا فرض إرادتها في مناطق نفوذها عبر مقاولين عسكريين محليين، بكلفة منخفضة مالياً وسياسياً.

واشنطن: متعاقدين لا شركاء

تعزز واشنطن قواتها شرقي الفرات يومياً، وتشحن جواً وبراً أسلحة وذخائر ومعدات ثقيلة لا يبدو أنها مخصصة لقتال خلايا داعش بسيطة التسليح والمتناثرة بين المدنيين. وتستقدم أميركا المزيد من قواتها، وتجند المزيد من السكان المحليين كمقاتلين بميّزات، هي الأكثر إغراءاً في سوريا، على أن يرتبطوا بها مباشرة، بعدما كانت “قوات سوريا الديموقراطية” مفوضة بهذه المهمة.

قد تكون نيّة واشنطن هي  توجيه ضربة جريئة للمليشيات الإيرانية شرقي سوريا، على غرار تصفية قائد فيلق القدس قاسم سليماني مطلع العام الحالي، لكن هذا يعني أيضاً أنها ترسم حدوداً صلبة لوجودها السوري، وتضع له جدولاً زمنياً غير محدد، شأن انتشار كل قواتها منذ الحرب العالمية الثانية. ولتحقيق بقاء مستدام وآمن، سيجنّد الأميركيون عرباً وأكراداً لا كشركاء أو كيانات سياسية لديها أجندات تتوجب مراعاتها، إنما وفق الصيغة الأميركية المفضلة؛ “متعاقدين” مع وزارة الدفاع، ينفذون المهام الموكلة لهم مقابل المال والحماية.

أنقرة: مرافقة للجيش التركي

أنشأت تركيا خطاً دفاعياً بمحاذاة الطريقين الدوليين M4 وM5 في إدلب، ونشرت عليه نحو 10 آلاف جندي، و5 آلاف آلية، بالتزامن مع تحصين مناطق نفوذها شرقي الفرات، إذ شرعت ببناء ما وُصف كأكبر قاعدة تركية في سوريا شمالي الرقة.

وجندت أنقرة مؤخراً نحو 9 آلاف مقاتل من “الجبهة الوطنية للتحرير” و”الجيش الوطني”، لتوزيعهم على 6 “ألوية مرافقة” يقودها ضباط أتراك، انيطت بها مهمة حراسة وتأمين القوات التركية محلياً. وبذلك، تعدل أنقرة عن سياستها السابقة المتمثلة بدعم كيانات عسكرية سورية محلية ترفع شعارات الثورة، بعدما توقفت عن دفع رواتب جزء منها منذ ثلاثة أشهر، ما اضطر عناصرها للبحث عن أعمال مدنية بديلة، أو الالتحاق بصفوف المرتزقة للقتال في ليبيا إلى جانب قوات “حكومة الوفاق”، حيث يتولى الجيش التركي تنظيم العملية.

وتعمل تركيا بدأب وصمت، لجعل الحدود الجديدة راسخة ومستقرة، وتحويل المدن والبلدات في مناطق سيطرتها إلى امتداد للولايات التركية من الناحيتين الإدارية والخدمية، وتحويل نخبة المقاتلين المحليين فيها إلى عسكر تركي، من الدرجة الثانية، يمكن الزج بهم في المهمات الخطرة، بتكلفة سياسية قليلة.

طهران: شيعة الضواحي

ليس بوسع طهران إلا الإستعاضة عن مشروع الطريق إلى المتوسط، بمحطات على الطريق، متمثلة بالبؤر التي انشأتها، وزجت فيها بمليشيات شيعية أجنبية، وجنّدت سكانها المحليين. الاستراتيجية الإيرانية في سوريا كانت تقوم على دمج مليشياتها في الدولة والمجتمع، للسيطرة عليهما، على غرار تجربة “حزب الله” في لبنان، لكن مع الحاجة لتقاسم سوريا مع مُحتلين آخرين، وتراجع قوتها الاقتصادية والسياسية، بدأت طهران تميل إلى مركزة أتباعها في مناطق منفصلة، والاستعداد للدفاع عنها، بعدما اتضح عجز نظام الأسد عن حماية نفسه. فعلياً، منذ مقتل قاسم سليماني، بدأت مليشيات طهران بالتقوقع في مناطقها، الطرفية غالباً، لتستنسخ تجربة ضاحية بيروت الجنوبية وحي الصدر في بغداد.

وابتداء من البوكمال، وصولاً إلى دمشق وريفها، تتناثر قواعد الارتكاز الإيرانية على شكل أحياء أو قرى، أو حتى مجرد قواعد عسكرية، يعيش فيها “المجاهدون” الشيعة وعائلاتهم، ومن انضم إليهم المتشيعين، في ظل نظام اجتماعي واقتصادي وإداري متكيف مع نظام الملالي، ومنصاع له سياسياً وعسكرياً.

تكريس الانقسام

كانت موسكو قد أعلنت أنها تدعم على خلفية تفشي وباء كورونا، تحركاً دولياً لإعلان هدنة عالمية في مناطق النزاع، تأتي سوريا في مقدمتها. اتفاق دولي كهذا، سيعزز فرصة تجميد القتال في سوريا، والانتقال إلى “استقرار” دائم للوضع الراهن، أي اقتسام سوريا بين القوى المتداخلة فيها. وبهذا، تغدو استعادة وحدة التراب السوري، تحت حكومة ذات سيادة، مهمة صعبة للغاية، إن لم تكن مستحيلة.

قد يعجبك ايضا