شرفة المكتب الإعلامي 4/5

خليفة الخضر

خليفة الخضر

ربما الموت ليس حلاً، وإن وضعوا جثتي الساخنة بمقبرة الشعار، حتى داخل القبر، ربما أفكر بأسئلة ليس لها وجود.

أسبوع.. يتصل بي صديق على برنامج واتس آب: هل متت يا هذا، منذ أسبوع آخر ظهور لك على الواتس آب!

أذهب إلى جاري، صاحب محل بيع مشروب جاك، أساله عن حال برهو، مقاتل من الجيش الحر، ذاك الذي طلب مني أن أنشر خبر مقتله على الإنترنت، أخبرني أنه قد ذهب إلى ربه، إثر قصف من قبل “داعش”، في قرية صندف، بالقرب من مارع شمال حلب.

مشيت وحدي في الشارع الواصل بين دوار الحلوانية، ومعمل زيوت فرزات، أدخل الأزقة على جنب الشارع، أبنية، وبيوت على مد البصر تنتظر دورها بالدمار، أبنية تَحتضر، شرفات على جنبي الشارع، بالكاد ترى إنارة منزل في أحد الأبنية، منها من هي في الطابق الرابع، أخرى في الأول على الطرف الأيسر من البناء، أخرى في الطابق الثالث في المنتصف، بعض العوائل تنتظر الموت، تريد الموت، ربما هي من اختارت الطابق الأخير، تترجى تموت.

ربما تريد الموت بعد كل ما يحدث، فليس البراميل المتفجرة هي المشكلة، إنما جزء من المشكلة، مشكلة البراميل، أنها غطت على الكثير من المشاكل، مشكلة البراميل، صَغرت من المشاكل الأخرى ومحقتها، فمن يجرى على ذكر، أن ما يفكر به، ويشغل باله، هو الماء الساخن في منزله، لكي يستحم؟!

سيُرد عليه: الناس تموت، وأنت تسال على كهرباء وماء ساخن!

هل في حال ذكرت أنني أفقد وجود عائشة، واليوم أبحث عن برهو لكي أتحدث معه، وقيل لي أنه مات، سيرد علي أحدهم: يموت الكثيرون يومياً.

إذا ما فكر رجل بشراء شيء لزوجته في عيد زواجهما، ولكن لم يعد متوفر، كغسالة كهربائية، سيرد عليه: أنت أين ونحن أين!

اغتال البرميل كل ما يدور في خاطرنا، من هموم، وعواطف، ومشاعر، حبسها لتنفجر ذات يوم، وتسبب لنا اختلال بالتفكير، نصبح غير صالحين للعيش، غير قادرين على التجاوب مع مشاكل الحياة، وتسخيفها بطريقة تؤذينا.

هل إذا ما صورت تقرير مصور عن شاب يفقد حبيبته، هل سيتجاوب المشاهدون مع الفيديو؟

خلقت المكاتب الإعلامية، وما تريده القنوات من مقاطع تدل على مأساة، ما يحدث في شرق حلب، حالة اغتالت كل الأوجاع الأخرى، فالقصف، وصوت صفير البراميل، وغبار الأبنية الاسمنتية، ووجوه تخرج من الغبار بيضاء الوجه، والشعر، ودماء تسيل على الوجوه، ونيران تشتعل لتفرق بحرارتها الغبار البيض، وصوت زمامير الإسعاف، والدفاع المدني، ورجال تتراكض، ونساء تبكي، ومدخل إسعاف، فيه ممرضين، وممرضات، مقيدي الحركة، بسبب كثرة حالات الإسعاف، وأطفال تشرد بكل ما يحدث، خارج هذا الكادر، لا تريده القنوات في الوقت الحالي.

هل سيسلط الإعلام الضوء على من فقد فتاة شعر بالأنس معها، وفقدها كدمار حي بأكمله؟

لو ماتت عائشة، وأخرجوا جثتها من تحت الأنقاض، لتراكضت الكاميرات، وكامرتي منهم لتصويرها، ولو قالت كلمة، أو حملت بيدها شيء، سيزداد تفاعل الناس معها، سيبكون لأجلها، ويطلبون جهات اتصال معها لمساعدتها، ولكن هي سافرت الأن، بالنسبة لي، تَحولتُ لضحية، كضحايا القصف، هل فقط نبكي ونفقد الأموات؟

تعذر على خيالي، خلق طيف لعائشة والتحدث معها، والمشي معها بين أزقة حي كرم البيك، الذي وصلت للتو إليه، والعودة والمشي على حائط سوق الجمعة القديم، والمشي تجاه جامع التوحيد الصغير، والتحدث معها عن الكثير من الأحاديث، تعذر ذلك رغم اجتهادي، أثناء مجاهدتي لنفسي برسم طيف لعائشة، تحدث معي طيف برهو، مع ضحكته المعتادة، التي كانت تعقُب حتى خبر الأموات، ويضحك من طريقة القصف، أو من طريقة خروج ناجي من تحت الأنقاض، ضحكته تذيل كل فكرة يتحدث بها.

– لا أحد يعيش ما أعيشه الأن، لا أعرف أين أنا في النار، أم في الجنة، لكن أنا اعيش بطمأنينة.

والدي خرج من السجن بعد مقتلي، لا تصدق أن داعش بشر، هم مقاتلي الأسد، ولكن بلحى طويلة، ينفذون ما يطلبه منهم، أعرف أن الناس في الحارة، لا تقول عني شهيد، إما خوفاً، أو كون بعضهم يرى أننا من نقاتل داعش كفار ومرتدون، لكن لا يهم، فأعيش مطمئن، وإن كان مصيري كافر، فلا بأس.

أخبر طيفه أن عائشة ذهبت، ويذهب يومياً غيرها الكثير، إما بالسفر خارج المدينة، أو إلى باطن الأرض.

برهو: تعرف يا إعلامي على ماذا اشتهي؟ أشتهي ممارسة الجنس مع أنقاض الأبنية، ومع الحارات الفارغة، عسى أن تحبل، وتجلب لنا أبنية جديدة، وناس جدد، لا يختلفون بالظاهر عن الناس والعالم، ولكن في الباطن هم من جبلة مقاتل، لا يخشى الموت، وأبنية تم تدميرها، سيخرج ناس من صلبي لا تموت أبداً، ولو قصفتها بألف براميل.

بعيداً عن نظريتك الخطيرة، لكن هذا ما يحدث بنا فعلاً، سوى أننا نموت في النهاية، هل تشبهننا بالناس في العالم … أي مجنون يشخص بنظره في السماء ينتظر البرميل يسقط عليه، وأي مجنون يكنس شظايا الأبنية والبرميل من أمام منزله ومحله، ويكمل لعب الطاولة لحين قدوم البرميل الأخر، أو معرفته أن الطيار أنهى ما لديه، ولن يعود اليوم، أو صاحب محل العطورات، إذ تبعد البنت أو المرأة بقايا الحديد المدمر، عن مدخل محله، لتسأله عن أنواع من مساحيق التجميل، كانت قد وصت البائع له منذ أسبوع، وأخبرها أن تعود بعد أسبوع، عله يتوفر لديه، وها هي تأتي على الموعد لتتأكد من وصول الطلبية أم لا!

أطلب من برهو أن يذهب معي إلى منزل عائشة، خفت أن شاهدني أحدهم في منزلها، أو في بناءهم، يظن أنني سارق، وفوق ذلك ليس لدي سلاح، برهو معه كلاشنكوف، وإن كان سارق، لن يستطيع أحد الاقتراب منه.

نمشي تجاه شارع المؤسسة، بالقرب من بناء الباخرة، نتجه إلى صيدلية هاكوب، نواصل السير على رصيف حائط السوق الشعبي.. نمشي على ضوء إنارة جهاز الجوال الخاص بي، وإنارة قداحة برهو، نتحاشى الاقتراب من مقر لجبهة النصرة في مجمع مدارس الكفاح للبنين، نصل الحديقة، فضول طيف برهو يجبرني لدخول الحديقة ليلاً.

طيف برهو: ربما نجد شخص يخبئ كنز وذهب زوجته.

نخرج من البوابة الغربية، تلك التي خرجت منها عائشة، ندخل شارعهم، ندخل بناءهم، صوت مولدة و” موتور” سحب الماء، ولوحة الأمبيرات فوقها ضوء خافت، نرفع كل القواطع التي ربما قد فصلت بسبب ضغط الكهرباء، أو ضغط الكابلات لأحد المنازل، ربما لإمراه تخاف النزول من بيتها، لرفع القاطع الخاص بهم، خوفاً من الخطف، أو من أي شيء، في ظل خلو الشارع من الناس.

نصل طابق عائشة، بدل الباب، وجدنا حائط قد بُني بدل الباب، وتم إغلاق المنزل، لا مجال للدخول إلى المنزل، والجلوس مكان جلوس عائشة، ربما أجد رسالة كانت قد كُتبت لي، لما بقايا القلم الأزرق إذاً؟!

يستشير علي طيف برهو هدم الحائط، فالجدار “رطب” ولم يأخذ الاسمنت مفعوله بشكل قوي، ومن السهل تدميره.

– لا، سنصعد إلى سطح البناء

أصعد وطيف برهو إلى سطح المبنى، أدور بنظري على بقايا ذكرى عائشة، أصعد خزان ماء، هنا كانت تجلس وتتحدث معي، تخبرني أنها لا ترتدي الحجاب، فلا أحد يراها، لا ليس هنا، وعندما نظرت وإذ بإنارة قلعة حلب، أراها ولكن لا يصل نورها لمكاني، أتذكر تخبطها وحقدها، على من يسكن غرب المدينة، عندما كانت تظن أنهم يعيشون برغد، وهي في جحيم من خلال رؤيتها للإنارة القوية، التي يسلطها الجيش النظامي بوجه نقاط رباط الجيش الحر في محيط القلعة.

إنارة قوية ومن حقها تغضب وتحقد، إنارة قوية تغطي على مأساة من يسكن في أحياء غرب حلب.

ظلام جائر في شرق المدينة وإنارة جائرة في غرب المدينة، عائشة كانت طعم من يريد زرع التفرقة بين أبناء المدينة، عن طريق خلق الأضداد، بين شقي المدينة، وتوسيعها.

عل عائشة في تركيا تدرس بالجامعة، وتتناسى حقدها، هل يموت الحقد إذاً ما تركنا المكان، أم يزداد ويتحول لنهج فكري له مفرداته!؟

لا شيء يدل على عائشة، إلا قشور بزر دوار الشمس على الخزان، والكثير منه على أرضية سطح المبنى.

انتقل مع برهو من سطح بناء، لسطح بناء أخر، ننزل الدرج لنخرج من البناء المقابل لمحل انترنت بكرا أحلى.

يودعني طيف برهو..

أمشي تجاه مشفى دار الشفاء، من ثم أكمل أدراجي إلى المكتب، مطولاً الطريق على نفسي، تجاه دوار الحلوانية، ومن أمام أبنية الجربوع ومن ثم بناء المكتب، يقتل وحشة الطريق سيارة عسكرية، تسير بسرعة مع أغاني شعبية، وسيارة أخرى، تبث أنشودة جهادية، قد تصدف أمامك سيارة، تنتهي الأنشودة الجهادية لتسمع على أثرها أغنية شعبية.

أتفقد الدراجة الهوائية في أحد الدكاكين، أصعد إلى المكتب.

بدئت وحشة الوحدة تتسلل إلى جسدي، تفكيري كتنميل يواصل زحفه في أنحاء جسدي، أعدل من جلستي، أقفز على الأرض، عله يذهب مني، لا أجلس في غرفة النوم، أجلس على الشرفة، أطيل النظر برادار المطار، لا حديث مشترك مع ذاك الموظف أو الضابط، داخل حجرة الرادار، إن كان بالأساس يفرز لها وبداخلها موظف، أي حديث مشترك، وما الذي يجمع حديث بيني، وبين شخص يشاهد المروحيات، كيف ترمي براميلها وصواريخها على أبناء بلده، ولا يحرك ساكن.

لا يوجد أي كلمة لأبتدئ معه حوار، الأفضل العودة إلى عزلتي، على أن أتحدث مع مجرم، وحشة فراغ المكان أسرتني، ولم ينفع مقاطع الفيديو على اليوتيوب، وكأن المعلق الصوتي، في برامج قناة ناشونال جو غرافك مل مني، ومن مشاهدتي واستماعي له.

أحاول النوم، بانتظار يوم جديد، ومغامرة جديدة، سيكون الليل ممل وموحش، أنتظر صوت المدفعية، أو رشقات الرصاص، أو صوت طيران الميغ، عله يكسر وحشتي.

أغفى، يتقلص جسدي، يأخذ التنميل يسري به كأمواج، ويقلب التنميل جسدي يمنة ويسرى، يفرده، ومن ثم يكمشه، وأبدوا كغطاء تركه طالب جامعي على فراشه دون ترتيب، وذهب إلى جامعته.

أحلم أن طيف عائشة، وبرهو، وأبو اسلام الإرهابي، ونابلسي، و بهاء البطوشي، تقترب مني، لا أجد إلا نفسي على حافة الشرفة، أهوي منها من الطابق الرابع، على الأرض، وقبل لمس جسدي الأرض، استيقظ، أعود للنوم، يعود الحلم ذاته، ثم أشغل تلاوة سورة البقرة على اليوتيوب، ومن ثم أحاول النوم، وكأن رأسي يزن مئة طن، أعود للنوم، وذات الحلم أهوي، كَهَوية البراميل، ولكن سقوطي لا أحد ينتظره ، كما البراميل المتفجرة، ولا أنظار شاخصة بجسدي، أسقط، استيقظ فزعاً، هرباً من الكوابيس المتتالية، خوفاً من سقوط حقيقي، استيقظ به قبيل ارتطام جسدي في أرض الشارع، غيرت غرفة المنامة، نمت في غرفة كان يستخدمها صاحب المنزل، لتربية الطيور، منازل الطيور على جدرانها الأربعة كمكتبة كتب، لم استطع النوم من ريحة الطيور والتنك الصدئ، في هذه الغرفة، نافذه داخلية تكشف مداخن وحمامات منازل البناء، سمعت صوت قادم من بعيد، يأتي على شكل أمواج، موجات اسمع الصوت جيداً، وموجات، لا أميز ما يقال، أصوات أغاني لسارية السواس، وأصوات رقص، وضعت أذني على الأرض، علي أترصد أعمار من يرقصون من ضربات أرجلهم على الأرض، أخمن أعمارهن، هن نساء، وربما شابات، يرقصن الأن، حاولت ترصد مكانهن، علني أستطيع معرفة مكانهن، أذهب لأطرق الباب، وأجلس معهن، هن سيظننا أنني قادم، إما لنهرن، وأمرهن بإيقاف الرقص، وصوت أغاني سارية، أو يظنني أريد ممارسة الجنس معهن، أثناء طلبي لهن ذلك بطريقة مبتذلة، سأخبرهن، لقطع كل هذا الشك، أنني أريد الرقص معهن، أخاف الوحدة، وأخاف أن يرتطم جسدي بالأرض ساقطاً من شرفة المكتب، حاولت ترصد المنزل وصوت الرقص لم أجده.

شرفة المكتب الإعلامي 3/5

قد يعجبك ايضا