صبحي حديدي عن أمجد ناصر: برهة بألف مما يعدّون

سليم بركات، محمود درويش وأمجد ناصر

جسر: متابعات:

سليم بركات، محمود درويش وأمجد ناصر

الطريق بين عمّان والمفرق ليست طويلة، وهي معبدة جيداً، وكانت يارا يحيى النعيمي (أي: يارا أمجد ناصر) تقود السيارة بهدوء ودراية، وتتلقى من المقعد الخلفي إرشادات عابرة من شقيقها أنس، وتصغي باسمة إلى تعليقات من أمّها هند الساروط على ممازحات الـ«عمّو» الذي هو أنا، حيث مُنحت المقعد الأمامي. كنت أنوي السفر إلى المفرق بمفردي، للقاء صديقي هناك بعد لقائنا الأخير في لندن، لكنّ أسرة أمجد تكرمت فاصطحبتني ضمن ما يشبه «الوفد العائلي»؛ الأمر الذي منحني ترخيصاً بأن أذكّر يارا وأنس بوقائع من الماضي حين كان وعيهما يتفتح شيئاً فشيئاً في مناخات لندن.

كنت أدرك جيداً أنّ زيارتي إلى أمجد قد تكون الأخيرة بالفعل، بالنظر إلى طبائع الغدر الخاطفة التي اتصفت بها على الدوام أورام لعينة اجتاحت رأسه؛ ولكني لم أشأ وضع الزيارة تحت تلك الصفة، وراهنت أنّ الزمن الذي سوف أقضيه مع صديقي سيذهب بنا مذاهب أخرى أكثر جدارة بإبعادنا، معاً، عن أشباح الوداع. وكان مقرراً ألا يطول مكوثنا في المفرق، إذْ توجّب أن تعود يارا مبكراً لتسافر في اليوم التالي إلى دبي، لكن أمجد كان له رأي آخر: ساعات من الانفراد، خضنا خلالها في أحاديث شتى، تخصّ الشعر والسياسة وفلسطين وسوريا؛ وأتينا على ذكر أصدقاء كثر مشتركين، وذكريات معهم معظمها كان بهياً ثرياً، وبعضها الآخر كان مأساوياً، وثالثها لم يخلُ من الكوميديا؛ وعدنا إلى وقائع في الماضي البعيد، والآخر القريب، فضلاً عن الحاضر؛ وبالطبع كانت تجربة الصفحات الثقافية في «القدس العربي» محطّ ذاكرة خاصة يعتزّ بها أمجد، وأشاطره الاعتزاز ضمن مساهمتي المتواضعة في مشروع بدأ متميزاً ومختلفاً منذ بداياته…

بعد ساعات الانفراد تلك تعيّن أن يحضر المنسف الأردني، وألا أغادر (وتكرمت يارا، هنا أيضاً، بمراعاة رغبة البابا والعمّو معاً) من دون استعادة تجربة سابقة لي مع هذه المائدة، في هذا البيت الكريم العامر تحديداً، منذ سنوات طويلة؛ حين كانت والدة أمجد وأحمد سيدة الدار والمطبخ، رحمها الله. وإذْ أوشكت الزيارة على الانتهاء، كان صديقي قد حمّلني قسطاً مفاجئاً من الأمل، والإحساس الملموس، بأنه يتحسن عملياً بعد مقاربة علاجية مختلفة اقترحها عليه أطباء الأردن، أصحاب السمعة الطيبة في معالجة الأورام. وأخال أنني حملت له نبأ ساراً، أسعده كثيراً كما عبّر وكما قالت أساريره، وهو أنّ صديقنا المشترك فاروق مردم بك، الناشر المسؤول عن سلسلة «سندباد/ أكت سود» المعنية بنقل الآداب العربية إلى الفرنسية، قد تحمس كثيراً لمجموعة أمجد الأخيرة «مملكة آدم» واستقر على تكليف مترجم بارع بنقلها كاملة، مع مختارات تغطي كامل تجربته الشعرية، إلى لغة موليير.

ولعلّي آمل أنّ زمناً طويلاً سوف ينقضي قبل أن أقع، مجدداً، في تلك البرهة الرهيبة العجيبة، قاصمة البصيرة واللسان معاً، حين يتوجب عليّ أن أجيب شاعراً، يحدث أيضاً أنه صديق حميم، عن تجربته الشعرية في خلاصة وجيزة أقرب إلى وقفة وداع. آخر مرّة كانت مع محمود درويش في باريس، ليلة سفره إلى الولايات المتحدة للعلاج؛ والثانية شهدتها تلك الجلسة المنفردة مع أمجد ناصر في المفرق. ولقد بدا أن الأمر سهل، فموقفي من شعر الاثنين ليس معلناً ومكتوباً، وبالتالي يتجاوز أحاديث المجالس المغلقة، فحسب؛ بل إنني مكثر، على نحو أو آخر، في تثمين التجربتين، حتى أنعم عليّ البعض بتهمتين، متعارضتين متناقضتين: أنني لا أرى سوى قصيدة التفعيلة، متمثلة في درويش؛ وأنني منظّر قصيدة النثر، في قراءتي لشعر أمجد ناصر (وآخرين، للإنصاف: عباس بيضون، بسام حجار، سركون بولص، نوري الجراح…). لكن “التمرين”، في المفرق كما في باريس، لم يكن البتة سهلاً، بل أشبه بشحذ اللسان على مبرد خشن!

ولست أسترجع، هنا، أطراف ما قلته في المفرق هناك، ولكني أعيد التشديد على عناصر جعلتني أنحاز دائماً إلى شعر أمجد؛ أوّلها أنه بدأ شاعر تفعيلة، وكتب نماذج متقدّمة في هذا الشكل خلال السنوات الأخيرة من عقد السبعينيات. وفي مجموعته الأولى، “مديح لمقهى آخر”، 1979، نقرأ قصائد فاجأت بمستوى نضجها الفنيّ، وهدوء نبرتها الإيقاعية، وذكاء استكشافها للطاقات الموسيقية الكامنة في التفعيلة، وبراعة تملُّصها من تبعات الشكل الأخرى (أنظمة التقفية، على سبيل المثال). عنصر ثان، متلازم مع الأوّل، هو أنّ تلك البدايات التفعيلية سلّحت الشاعر بدرجة عالية من التدرّب المبكّر على استكشاف بواطن الإيقاع، والتيقّظ على منعرجات الشكل. وتلك، في مجموعها، مكّنت أمجد من الانتقال بخطى ثابتة، وبأمان ملموس، نحو شكل قصيدة النثر الذي طبع كتابته الشعرية منذ العام 1979 وحتى رحيله. ثالثاً، وابتداءً بمجموعته السادسة “مرتقى الأنفاس”، 1997، ذهب أمجد أبعد وأعمق في استكشاف باطن الفصحى، واستثمار الطاقات الإيحائية لمفردات غير دارجة، ولكنّ مخزونها الدلالي يتدفق بيسر، ويستثير في الآن ذاته شهوة القارئ إلى بسط الدلالة وتحريك المغزى وإطلاق التفاوض الواسع حول المعنى.

وتلك برهة كانت، عندي، بألف ممّا يعدّون؛ فكيف إذا اتخذ منطقها، وبالتواطؤ بين صديق وصديقه، سمة تعاقد ضمني بأنها ليست وداعاً، ولا… مَنْ يحزنون!

 

(القدس العربي)

قد يعجبك ايضا