صندل “أبو علي محاميد” الذي به انتصرنا

عمر قدور

“نرجو من أهلنا في كافة المناطق السورية وفي بلاد اللجوء أن يلتمسوا لنا العذر في ما توصلنا إليه من اتفاق، حتى لو كان لا يلبي مطالبنا كاملة، ولن تتغير مواقفنا من الثورة السورية التي قدّمنا فيها الدماء والأرواح حتى تحقيق أهداف الثورة كاملة”. بهذه اللهجة الاعتذارية اختتم أبو علي محاميد ما كتبه على صفحته في فايسبوك إثر الإعلان عن الاتفاق الجديد للهدنة في درعا في الأول من هذا الشهر. المحامي عدنان المسالمة، الذي كان اختير ناطقاً رسمياً باسم لجنة درعا البلد ومجلس عشيرة درعا، نشر على صفحته بنود الاتفاق بلا تعليق. العودة إلى نص الاتفاق كفيلة بشرح اللهجة الاعتذارية لأبي علي، وعدم تقديم السيد المسالمة الاتفاق كإنجاز يُحتفل به.

ينص الاتفاق، بعد الوقف الفوري لإطلاق النار، على بنود عديدة منها فتح مركز لتسوية أوضاع “المطلوبين” وأسلحتهم، ومعاينة هويات المتواجدين في درعا البلد لنفي وجود الغرباء، ونشر أربع نقاط أمنية، وصولاً إلى البند الأخير وهو العمل على إطلاق سراح المعتقلين وبيان مصير المفقودين بعد مضي خمسة أيام على تطبيق الاتفاق. هذه كانت البنود التي لا يريدها الأهالي، والبند الأخير من بينها موجود في تفاهم سابق لم يلتزم به الأسد، والعمل “كما في النص” على إطلاق سراح المعتقلين وبيان مصير المفقودين لا يتضمن إلتزاماً جاداً بالاثنين، فاستخدام تعبير “العمل على” يضمن تسويفاً وتنصلاً ممن سبق له التنصل من إلتزامات أكثر حزماً ووضوحاً.

نجح أهالي درعا البلد في الصمود، ومنعوا اقتحامها خلال حوالى شهرين ونصف الشهر، رغم الحصار المطبق عليهم “متضمناً منع الغذاء والدواء”، ورغم الفجوة الهائلة بين أسلحتهم البسيطة وأسلحة الميليشيات المهاجمة. فلا أحد يستطيع التشكيك بهم أو بشجاعتهم التي بلغت أقصى ما يمكن لهم تحمله، والهزيمة كانت منتظَرة ما لم تتدخل عوامل خارجية لصالحهم. الاتفاق، وفق المعطيات المعروفة، هو أهون الشرور، وفيه من البنود ما سبق رفضه عندما أتى بصياغات مختلفة أثقل وطأة. فنشر أربع نقاط أمنية مثلاً لا يُعرف ما سيجرّه على الأهالي من انتهاكات لاحقة، خاصة بعد تنفيذ بند تسوية أوضاع المطلوبين وتسليم أسلحتهم، وكذلك الحال مع بند التدقيق في هويات المقيمين لنفي وجود الغرباء! فهو بند يتضمن القدرة على إزعاج الأهالي جميعاً بذريعة التدقيق، ولا يُعلم متى سيُستغل بإهانة شديدة متعمدة لاستفزازهم والانقضاض على التفاهم الجديد.

الضمانة الروسية للاتفاق لا قيمة لها، فموسكو كانت ضامنة لتفاهم عام2018 الذي انقض عليه الأسد، إن لم يكن بالتنسيق معها منذ البداية فقد أتى التنسيق لاحقاً. يجدر التذكير في هذا السياق بأن السياسة الروسية في سوريا تسعى إلى تقديم نفسها كأستاذة في فن الـ”خطوة خطوة”، من خلال إبرام التفاهمات ومن ثم الانقضاض عليها، وأفدح مثال عليها “مناطق خفض التصعيد” التي راحت تسيطر عليها واحدة تلو الأخرى، ولا تتوقف عن التصعيد في باقي المناطق كبادرة لإظهار النوايا الروسية اللاحقة. بعبارة أخرى، لا ضمانة حقيقية بعدم التنصل من تفاهم درعا الجديد بعد تجريد الأهالي من مقومات مقاومتهم السابقة.

أهالي درعا البلد وطرق السد والمخيمات، والذين وقعوا الاتفاق نيابة عنهم، يدركون ذلك كله. لكن لم يكن لديهم خيار يصون كراماتهم أكثر من هذه الصياغة غير المأمونة، وليس في وسعهم المجيء بطرف ضامن غير الروس، مع تسجيل إنجاز رمزي بوجود الشرطة العسكرية الروسية كأنها قوات فصل بين دولتين، أو بإدخال علم النظام إلى جانب العلم الروسي! غطّت صورة أبي علي محاميد وهو يفاوض ما قيل أنهم ضباط روس على نتيجة المفاوضات، وظهر محاميد وهو يضع ساقاً فوق الأخرى ويلبس صندلاً “شاروخاً باللهجة المحلية”، ما اعتُبر استهانة بالمفاوضين الروس وإهانة لهم، بل ما اعتُبر انتصاراً لدرعا وللثورة السورية.

هكذا عمّت أفراح الانتصار على وسائل التواصل الاجتماعي، الأفراح التي غابت عن صفحات المفاوضين الذين أتوا بـ”النصر”. صارت جلسة أبي علي “الذي يستحق الاحترام والإشادة” أمام الروس، وما فيها من استياء واضح جراء اضطراره لها، هي النصر. وانتقل المزاج، اليائس بلا إفصاح عن يأسه، من مساندة أهل درعا في ما يقررونه لأنفسهم إلى الاحتفال وكأنما ثمة اتفاق يعكس موازين القوى على غير النحو الذي كان معروفاً أو متوقعاً من قبل. وشاعت المقارنة بين لغة جسد بشار الذليلة أمام الروس وعنفوان لغة جسد أبي علي، وهي مقارنة لا تزيد في كرامة الأخير.

وانتصار درعا يأتي في سياق انتصارات متوالية، احتفى فيها جمهور الثورة بصمود أهالي مناطق أخرى ومقاتليها، ولو اضطر أولئك المقاتلون إلى إبرام تسوية يكونون فيها من عداد قوات الأسد. تفهّمُ ظروف المحاصَرين وشجاعتهم واحد من أسباب الحفاوة ولا يستغرقها كلها، إذ بين الأسباب ذلك التلهف الشعبوي إلى الانتصار، واختراعه عندما يعزّ تحقيقه أو كلما صار تحقيقه بعيد المنال. هناك أيضاً قيادات المعارضة التي يستهويها غرق الجمهور في وهم الانتصار، فهي باقية بلا محاسبة ما دام الانتصارات تتحقق بوجودها، وهي باقية ما دامت الانتصارات تتحقق بلا جهد منها أو فضلٍ؛ فوجودها إذاً غير مؤذ على الأقل. بالطبع، بين هذين الطرفين هناك كثرٌ ممن يفهمون الانتصار على حقيقته، لكن تبقى أفئدتهم مشدودة إلى رمزيات المقاومة إذ يرونها جديرة بالاحتفاء مهما انكسرت، ومهما ابتعدت تلك الرمزيات عن الوقائع.

لا يخرج عن هذا الإطار ما تشعله رمزية الحذاء من حماس، واعٍ أو غير واعٍ. الرمزية، معكوسة، لطالما حضرت لدى أعداء الثورة، فبعض من جمهور الموالاة لدى اندلاعها رفع صور بشار وتحتها عبارة “مطرح ما بتدوس منركع ومنبوس”، ولطالما خرج من بين جمهور حزب الله مَن يقول أنه “فدا صرماية السيد”. أما رمزية صندل أبي علي محاميد فيُراد لها أن تكون على منوال رمزية حذاء منتصر الزيدي، العراقي الذي رمى الرئيس الأمريكي الأسبق بحذائه أثناء مؤتمر صحافي له مع نوري المالكي في بغداد. ربما يذكر كثرٌ الضجة التي أثارها حذاء الزيدي، وكيف عُرضت مبالغ ضخمة لشرائه بسب ما اكتسبه من رمزية وحماس على امتداد البلدان العربية، قبل أن يطوي النسيان تلك الحادثة وتبقى القوات الأمريكية في العراق كخيار ألطف من ميليشيات إيران، ويمضي جورج بوش أيام تقاعده من دون أن يراه الأمريكيون بوصفه رئيساً مهاناً بضربة حذاء.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا