عن الأب باولو دالوليو المبَشَّر بالفشل (1)

عبدالناصر العايد

جسر: صحافة:

لا أذكر بدقّة أين وكيف اجتمعت به أول مرة، لكن ذلك كان في صيف العام 2009 في حلب، من خلال صديقة مشتركة مأخوذة بشخصيته الفاتنة التي تجمع التوقد الذهني مع الإخلاص والجرأة التي لا يحدّها سوى الحشمة.

كنت قد فُصلت للتو، في ذروة شبابي، من مهنتي كضابط، وتوجّب عليّ أن أعثر على مدخل أعبر منه إلى المستقبل، والتقينا في فترة تسكّعي في شوارع حلب، متنقلاً بين مسكن الطلاب الذي أقطنه مع أصدقاء في حي محطة بغداد، والمقهى السياحي المطل على ساحة سعد الله الجابري ومطعم العندليب، وسألني بعدما سمع حكايتي: وإذن.. هل تفكر في الهجرة! أجبت بالنفي القاطع، وبالقول إني باقٍ لأشقّ طريقاً ما هنا، لم أتبيّنه بعد، لكنني متيقن من وجوده. عندئذ دعاني إلى دير مار موسى، ففي تلك الخلوة قد “يرشدني الربّ”، كما قال، فابتسمت. لم يعبس لأنني رفضت بشكل مضمر دعوته لي للجوء إلى مكان ديني، أياً يكن وصفه، بل أسمعني عباراته التي سأقرأ مضمونها لاحقاً في أحد كتبه: “نحن ننظر في الماء الجاري إلى صورتنا، التي تتغير باستمرار نتيجة جريان الماء نحو الوادي السحيق”. وذكر لي باقتضاب أنه في شبابه الأول، كان ماركسياً متشدداً، “لكن أنظر ما أنا عليه وأنا أدنو من الستين!”.

بدا الرجل حينها مثل بطل خرج للتو من رواية فقير الله فرانسوا الاسيزي، لكانتزاكي، يلبس جسده العملاق “كلابية” فضفاضة، لونها الكحلي حائل بسبب شمس الصحراء وغبارها، ويشدّ ظهره بحزام عريض من جلد البقر، ونعل من السيور الجلدية، فيما رأسه الذي خطّه الشيب مغطى بطاقية فاتحة اللون. كل ما فيه متقشف وفقير وصادق، لكنه رسولي أيضاً.

فرك لحيته عندما لم أجبه، وقال بتلك اللا مبالاة التي يطلق فيها المتصوفون نبوءاتهم: لكن التدخين في الدير ممنوع، فكيف ستتوقف عنه؟ في الأيام التي تلت ذلك اللقاء، أطلقتُ معركة وهمية جديدة ضد التدخين، الذي أوهمت نفسي بأن تركه سيكون أول نجاحاتي في مساري الجديد، لكن الأمر كان بالغ المشقة، وبرز دير مار موسى عندئذ في رأسي كحلّ سحري، حتى أصبح هاجساً، فحزمتُ أمتعتي وتوجهت إليه في اليوم الأول من أيلول العام 2009.


(الزوار يتسلقون درجات دير مار موسى في ربيع 2009 – صورة خاصة بـ”المدن”)

لم أكن اعرف الكثير عن المكان ولا نوعية الحياة فيه، بل إن معارفي حول الديانة المسيحية بالمجمل كانت اجتماعية بحتة، إذ لم اقرأ شيئاً من كتبها، واقتصرت معرفتي على ما أستقيه أحياناً من أصدقاء مسيحيين، غير متدينين غالباً. قلت لنفسي سيكون من الجيد لو استطعت البقاء في الدير لبضعة أيام، الجبال الصحراوية جميلة على كل حال، خصوصاً في الخريف. لكني، عندما صعدت مئات الدرجات، وألقيت نظرة من البرج الروماني الى الوادي والسهل الضيق الذي يتصل به، والصحراء مترامية الأطراف التي يطلّ عليها، أدركتُ أنني وقعت على حكاية ستبدأ هنا، وفي الحقيقة أن حكايتين قد بدأتا انطلاقاً من ذلك الشهر الذي أمضيته مأخوذاً بالدير والجبال والوديان المحيطة به. إحداهما قصة حب أحمل وزرها ما حييت، وهذا ليس موضوعنا، والأخرى نجمت عن تقاطع مسار حياتي مع مسار حياة الأب باولو دالو ليو، الذي سأضع على كاهلي مسؤولية البحث عن جثمانه المفقود لسنوات طويلة.

وقد انتهيت مؤخراً إلى ما يشبه اليقين القاطع بأن حياة الأب باولو انتهت في بادية الجزيرة السورية، قريباً جداً من مسقط رأسي في شرق سوريا، فيما استقر مساري منذ سنوات في باريس التي يحلو لأهلها اعتبارها روما الجديدة، في مشابهة وجيهة لروما الإيطالية، مسقط رأس باولو. وهذان التشريق والتغريب ليسا بلا معنى بالنسبة إلي، ولا لفقيدنا الكبير على ما أعتقد. إنهما جزء من الحكاية الأقدم على هذه الأرض، حكاية الصراع الحميم بين شعوب المتوسط، الذي دارت عليه وحوله أقدم وأهم الصراعات الحضارية للجنس البشري، وتبادلت فيه الشعوب والجماعات والأفراد، المواقع والمعتقدات والأفكار والمصائر، على نحو دوري شبه ثابت، لتصنع تلك القماشة الفريدة المزدهرة بالألوان، رغم كل ما تبدو عليه من تناقض وتنافر، وهي مسألة يعيها باولو بعمق، ويعي موقعه فيها. ففي حديثه الأول عن نفسه في ساحة الدير المتواضعة، وتحت خيمة الضافية كما يسميها، أخبرني موجز حياته، وخلع نظارتيه في النهاية وأسندها بكفه إلى لحيته كعادته، ونظر إلى البعيد، قال مبتسماً بطفالة العبقري: “لكن كل هذا ناجم عن خطأ ذلك الطائر، فقد ضلّ اللقلق الذي جلبني إلى الحياة طريقه، وبدلاً من أن يأخذني إلى أمي في سوريا، حملني إلى إيطاليا، وأعطاني لأسرة كريمة هناك حيث نشأت، لكن أمي ما زالت تنتظرني هنا في سوريا، وربما لم يرزقها الله بأبناء، لذلك عدت لأبحث عنها، وأعتني بها”.

ولد باولو دالوليو في روما 1954، لأسرة متدينة. انتسب في شبابه الباكر للحزب الاشتراكي الإيطالي، لكنه رغب بعد ذلك في عيش الالتزام المسيحي الاشتراكي، انسجاماً مع موجة لاهوت التحرير التي ازدهرت في الستينيات. درس الفلسفة في جامعة نابولي، وفي العام 1975، التحق بالرهبانية اليسوعية “الجزويت”، درس اللغة العربية في الجامعة اليسوعية في بيروت العام 1977، وسرعان ما غادرها بسبب الحرب الأهلية، فانتقل إلى مصر حيث سقط مريضاً، فرجع إلى إيطاليا ودرس لسنتين في كلية الاستشراف الإيطالية، ثم غادر الى بريطانيا حيث درس اللغة الإنكليزية. قدم الى سوريا العام 1981 لاستئناف دراسة اللغة العربية، وتسجل في كلية الشريعة بجامعة دمشق كمستمع حر، وارتاد أثناء ذلك دروساً لعلماء دين مسلمين مثل البوطي واليعقوبي وكفتارو، كما تردد على حلقات الصوفيين عند ضريح محي الدين بن عربي. عاد بعد سنة إلى روما ليدافع عن أطروحته الجامعية في كلية الفلسفة بنابولي، وكانت تحت عنوان “النقد الإسلامي لعقيدة الثالوث”، وعاد في صيف 1982 إلى لبنان، وتطوع كمسعف مع مندوب الفاتيكان إبان الاجتياح الإسرائيلي، وفي ذلك الصيف أيضاً اكتشف دير مار موسى، فقرر ترميمه وجعله مقراً لدعوة حوارية بين العالمين الإسلامي والمسيحي. واستكمل دراسته في إيطاليا العام 1984، ورُسم كاهناً، عاد الى سوريا لسنتين حيث أعد رسالة الدكتوراه تحت عنوان “مفهوم الرجاء في الإسلام”، والتي دافع عنها العام 1989، وقضى بعد ذلك ستة أشهر في الفليبين، ثم انطلق الى دير مار موسى، فرممه وأصلحه اعتباراً من العام 1991، واسس فيه جماعة رهبانية مختلطة من النساء والرجال. لكنه، في العام التالي، خرج بإرادته من الرواق الرهباني، بسبب إصراره على البقاء في دير مار موسى وإتمام رسالته الرهبانية التي لم يوافق رؤساءه عليها، لكنهم طلبوا منه العودة العام 1997، بعدما أقنعهم عمله بجدوى ونجاعة مشروعه الخاص.

طوال السنوات التالية، انهمك باولو في العمل على تطوير أفكاره، وتوطيد جماعته الرهبانية، وإعمار الدير، وجعله مركزاً نشطا للحوار المسيحي الإسلامي، وحوار الشرق مع الغرب. لكن علاقته بالنظام السوري التي بدأت بالاضطراب منذ العام 2010، وصلت إلى نهايتها المحتومة في العام 2012 عندما أعلن باولو موقفه من الأحداث في سوريا، ووجه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، يطالبه فيها بنصرة الشعب السوري ضد النظام الاستبدادي القاتل، فصدر قرار من سلطات النظام بطرده خارج البلاد. خارج سوريا، واصل باولو عمله الحثيث لدعم الثورة السورية، وفي شهر آب 2013، دخل إلى الرقة التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، محاولاً لقاء قادة التنظيم، والتوسط لإطلاق سراح بعض المخطوفين الذين وجهت عائلاتهم رجاءهم إليه للتدخل، فاختفى بعد يومين من وصوله.

منذ اختفائه، عمل كاتب هذه السطور على معرفة مصيره، وتعددت الروايات والقصص التي وقع عليها. لكن البحث قاد في النهاية إلى ما يشبه شاهد العيان، ستكون شهادته الأكثر إقناعاً خاتمة هذه السلسلة من المقالات، التي تطمح لكشف النقاب عن تاريخ الرجل وجذور فكره ومنجزه والخط التاريخي لحركته، انتهاء بمصرعه التراجيدي على ما آمن به طوال الوقت… الفشل الذي بشّره به الرب، كما يردد دائماً، “وكثيراً ما جاء الفشل، فشعرت بالفرح، والقرب من الله، والوفاء لعهدي معه”.

يتبع..

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا