عن شحرور “الزنديق” وهوفمان “المؤمن”

محمد سبسبي

في هذه الأيام التي يطوي فيها رحيل الباحث الإسلامي الدكتور محمد شحرور عامه الأول (توفي في 22 كانون الأول/ديسمبر 2019) يحتدم الجدل مجدداً على مواقع التواصل الاجتماعي حول ما قدمه الرجل من مقاربات وقراءات تجديدية في التراث الإسلامي. ورغم أن هذا الجدل لا يعدو أن يكون نسخة مكررة لا جديد فيها سوى مزيد من الفتاوى الجاهزة والآراء الحاسمة التي تنال من الراحل والمحتفين به، فإنه يعود بذاكرتنا إلى العام الماضي حيث تزامن رحيل شحرور مع وفاة مراد هوفمان، الدبلوماسي الألماني المسلم، والذي تلقاها الجمهور بحزن وأسى على رحيل مفكر أوروبي مسلم، وراح ينشر، بكل فخر، قصصاً شتى عن مناقب الرجل وشجاعته لا سيما تلك المتعلقة بانتقاده للغرب.

هذا التباين في المواقف والآراء والذي انعكس في ازدراء الأول والاحتفاء بالثاني، إضافة إلى تدفق المدونات المليئة بالفتاوى والأحكام والتي انتشرت بين أناس محسوبين على النخب الإسلامية، دفعني، كأي مطلع لا يثق بما يتلقفه الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، للبحث والاطلاع على ما قدمه مراد هوفمان من آراء وأفكار، والذي كنت قد سمعت به ولم أقرأ له، وراودني سؤال ملح: هل اطلع جمهور المحتفين بهوفمان على فكره وكتبه؟ وهل أجروا المقارنات المنهجية بينه وبين فكر شحرور وقراءاته لقضايا الدين الإسلامي حتى تمكنوا من إصدار الأحكام والفتاوى، والتي تراوحت بين زندقة وتكفير الأول وحسن إسلام وإيمان الثاني؟ أفترض أن الغالبية ممن كتب عن الاثنين لم يكن لديه اطلاع كافٍ على ما قدماه، ولم يكلف نفسه عناء ذلك، بل اندفع مع المندفعين ووجد نفسه بين جمهور من المحللين والمحرمين، ورأى أن لا بد من الإدلاء بدلوه في هذه القضية جرياً على عادة “نجوم السوشال ميديا” في طرح مواقفهم في قضية الساعة، وكل ساعة، إن كانوا من المتخصصين أو المهتمين في هذه القضية أو لم يكونوا كذلك!

في الواقع، لا يحتاج المطلع على نِتاج كلا الرجلين إلى كبير عناء للوصول إلى نتيجة مفادها أنهما يلتقيان في الكثير من الرؤى والأفكار، بل يمكن القول بأن لديهما فهماً مشتركاً لبعض القضايا الجدلية في الفقه الإسلامي، و التي بنى على أساسها مهاجمو شحرور نقدهم بل تكفيرهم له. فمثلاً، لا يختلف مراد هوفمان في فهمه لحكم “قتل المرتد عن الإسلام” عن فهم شحرور، فالاثنان يؤكدان أن الإسلام لا يحكم بقتل المرتد وقد انطلقا في ذلك من آية “لا إكراه في الدين” والتي يعتبرها المعجبون بهوفمان آية منسوخة، أو على أقل تقدير، آية خاصة بأهل الكتاب ولا يشمل حكمها المسلمين، بينما يرى هوفمان في كتابه “الإسلام كبديل” أنه “ليس من المعقول أن الله يريد الحفاظ على كرامة وحرية غير المسلمين، وفي الوقت نفسه يرضى للمسلمين الإكراه”. وكذلك يتطابق رأي الرجلين إلى حد كبير في مسألة “حد رجم الزاني” و قضية “حجاب المرأة” والذي يرى هوفمان أن “القرآن فرضه في مواقع الخطر الممكن حدوثه على المرأة في حضارة أو مجتمعات معينة، وأنه سمح بتغيير لباسها بحيث يلائم التغير العصري” منتقداً في الوقت ذاته “المتزمتين التقليديين الذين لا يسمحون بالاستثناء في تغطية شعر المرأة مهما اختلفت العصور والأماكن، غير ملتفتين إلى اختلاف العادات والتقاليد لهذه أو تلك من الحضارات”. هذا إلى جانب العديد من القضايا التي يمكن للقارئ الاطلاع عليها في الكتاب سابق الذكر، أو في كتابه اللطيف “يوميات ألماني مسلم”.

إن جمهور المحتفين بهوفمان لو قُدّر لهم الاطلاع على مثل هذه الآراء، فلا شك أننا سنكون إزاء موقفين مختلفين منهم: فريق يرى فيه مستشرق ماكر ومتآمر على الدين، وعليه، سيكون فريسة سهلة لحفلات الشتائم والتكفير والاتهام بالزندقة التي طالت شحرور، وفريق آخر أقل تزمتاً، يرى أن خلفيته العرقية ودخوله الإسلام وعدم تمكنه منه بعد، ربما يغفر له مثل هذه “الزلات”!

والحق أن المطلع على مؤلفات هوفمان سيجد أن طروحاته عامة و موجهة للجمهور الغربي، وهي تستعرض المفاهيم والقيم العامة للإسلام، وتتجنب الخوض في تفاصيل التراث الفقهي الإسلامي، باستثناءات قليلة، والغالب أنه لو خاض في التراث بشكل عميق، لقاده منهجه وتفكيره لنتائج شبيهة لما وصل إليه شحرور.

لقد بنى معظم المتنقدين لطروحات شحرور نقدهم على عدد من المآخذ في المنهج والأسلوب وكتبوا فيها الكثير، لكنهم لم يتعاملوا بمنهج النقد ذاته مع هوفمان، بل أخذ منهم الإعجاب كل مأخذ فكانت عين الرضا عن كل عيب كليلة! ومن أكثر المآخذ التي رددها جمهور المنتقدين أن شحرور، الذي يحمل دكتوراه في الهندسة، غير متخصص في العلوم الإسلامية، وبالتالي من غير المقبول منه البحث في التراث الفقهي والموروث الديني وابتداع قراءات جديدة جديرة بالتأمل والنظر، بينما تغاضى الجمهور عن هذا الشرط لدى هوفمان الذي يحمل دكتوراه في القانون الدولي، وتلقوا أفكاره بالكثير من الفخر والرضا.

وختاماً، لا يفهم من هذا المقال أنه مرافعة عن فكر ورؤى محمد شحرور أو مهاجمة فكر مراد هوفمان، لكنه، بلا شك، دفاع عن حق شحرور في التفكير والتعبير والاجتهاد، كما أنه دعوة للتعامل مع فكر محمد شحرور العربي السوري المسلم، بالسماحة نفسها التي يتم فيها التعامل مع فكر مراد هوفمان الأوروبي الألماني المسلم، أو على الأقل دون اتهام بالكفر والزندقة!

قد يعجبك ايضا