عن صراعات المستقبل في الفضاء الأزرق السوري

عبدالناصر العايد

جسر: صحافة:

أثار منشور مقتضب في “فايسبوك”، للكاتب السوري حسام جزماتي، عاصفة في وسائل التواصل الاجتماعي. والمنشور عبارة عن صورة لخريجات من جامعة في شمال غربي سوريا، يرتدين ثوب التخرج الأسود والقبعة الشهيرة، لكنهن جميعاً منقّبات، ولا يظهر منهن سوى عيونهن. الكاتب الذي أعلن بداية أنه ليس ضد النقاب، أضاف ببساطة: “بس انه هيك يعني؟”، وربما أراد أن يعبّر عن استغرابه لعدم وجود خريجة واحدة غير منقّبة؟ أو ربما رمى إلى المزيج الغريب بين الرداء الغربي والنقاب الإسلامي.

ورغم عدم تيقن المعلقين من فحوى المنشور، ولا معرفتهم بالكاتب، كما تشير تعليقاتهم، فقد تكاثروا على صفحته، ليكيلوا له مئات الإساءات اللفظية والتعليقات المبتذلة، ناهيك عن التهديدات المباشرة، أو تلك التي تلقاها في صندوق بريده بلا شك.

لم يتفاعل الكاتب المعروف بهدوئه، مع الحملة التي عصفت بصفحته، لكن بعض أصدقائه من المثقفين السوريين أطلقوا حملة خجولة للتضامن معه عبر صفحاتهم من دون أن يجرؤ سوى شخص أو اثنين على مبارزة المعلقين الهائجين لينال نصيباً وافراً من الشتائم.

حملات الترهيب هذه باتت حدثاً مألوفاً، سواء تعلق الأمر بالدّين أو الثورة السورية أو الشعب السوري أو القضية الكردية أو قضية مناطقية أو عشائرية أو حتى الفوارق بين المطابخ السورية المتنوعة. لكن سرعان ما تنسى الوقيعة السابقة وأبطالها والخائضون فيها، لتُسلَّط الأضواء على قصة أخرى وينخرط فيها المنخرطون، إلى أن تظهر قصة جديدة، وهكذا.

ما يريد هذا المقال مناقشته ليس مسألة النقاب ولا حدود حرية التعبير في الفضاء الأزرق أو مخاطر التجييش الأعمى في منصات التواصل الاجتماعي، وكلها أمور خطرة. بل نهتم بموقفَين ظهرا على هامش الحدث، الأول هو فرح الإسلاميين بهذه الهبّة التي “تعبّر عن غيرة شباب المسلمين على دينهم وعرضهم”، والثاني هو ابتهاج المثقفين ودعاة التنوير بهذه الاستعراض العلني الذي يؤكد هواجسهم “بكون المجتمع ينطوي على ثقافة وحشية وعنف استبدادي” لا دواء له سوى بالاستئصال الجذري.

تأمل غالبية الاسلاميين، في ما يبدو، أن تؤدي حملات مثل هذه إلى ترهيب خصومهم، ومنح طروحاتهم نوعاً من القداسة والتسليم بها، فلا تُمسّ ولا تُناقش، لكن الواقع والتجارب القصيرة زمنياً مع ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي، تقول أن العكس هو ما يقع عادة. فهذه الحملات تنشر الفكرة المضادة لطروحاتهم، وتجعل الجمهور أكثر جرأة واعتياداً على تناولها وتداولها، بل أنها تخفضها من مسألة مقصورة على “الخواص” بلُغة المفكّرين الدينيين، إلى “حكاية” يناقشها ويجادل فيها “العوام” ويحيلونها مع مرور الوقت وتبادل الهجمات إلى مسألة مبتذلة ومبذولة، فلا قدسية لقضية أو كائن في وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح إمكانية اطلاق أي مقولة أو فكرة، مع عدم كشف هوية مطلقها.

وإذا كانت الحملات تحقق أحياناً هدف إسكات هذا المثقف أو ذاك بالعنف الرمزي أو التهديد بالعنف المادي، المرفوضَين بالمُطلق واللذين من الواجب التضامن مع مَن يتعرض لهما، إلا أنها تفشل دائماً في إغلاق النقاش، بل قد تقلب موقف الطرف الآخر إلى التحدي السجالي الذي لا ينتهي ويجذب مؤيدين غير متوقعين. والشعبوية والغرائزية المُلازمَان لسلوك غالبية مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، يطيحان مصداقية وعدالة أي قضية، ويثيران الشكوك في صوابيتها، ويتسرب ذلك بلا إعلان إلى نفوس المتابعين فيعدلون عن تأييدها أو الدفاع عنها.

من ناحية أخرى، يعتقد قادة حملات الترهيب في وسائل التواصل، أو من يقفون وراءها، أنهم بالحشد والتجييش يصعدون موقف الأوساط المؤيدة لهم، ويرفعون الاستقطاب بجعله أكثر عنفاً. لكن ما يحدث فعلياً هو أن غضب وهيجان الجموع الافتراضية يتم امتصاصهما واستنزافهما في تلك الحملات. ومع التكرار والفشل، والتجربة والتصحيح، يعتاد الجمهور على المخالفين والآراء المضادة، ويمرون بجانبها لاحقاً من دون أن تثير فيهم سوى السأم.

أما الموقف المضاد، الذي يمكن وصفه بالحداثي أو العلماني، أي ذلك الذي قرر بناء على تعليقات هذه العينة الافتراضية، أن مجتمعاتنا ميؤوسٌ منها، وأن لا حلّ لمعضلة تطرفها وعنفها سوى الأنظمة القمعية، فهو موقف يرتكز على قاعدة مضادة لما يزعمون الاستناد إليه وهو القوانين العلمية. فهم لا يربطون بين تعليقات وآراء المتداخلين وشروطهم الموضوعية، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وينسبون كل ردود الأفعال الغاضبة إلى ثقافة سحيقة مُغرقة في التخلف والوحشية، وإلى نزعات عدوانية متأصلة في جينات الجماعة المعنية، على نحو لا فكاك منه سوى بالتطهير الشامل. وهو الموقف الذي ساد بين النخب التحديثية العربية طوال القرن المنصرم، وأدى في النهاية إلى ظهور أنظمة معادية لمجتمعاتها، تقمعها وتعذبها وتقصفها بالأسلحة المحرمة دولياً، بحجة تخلف تلك المجتمعات وعدم قدرتها على مواكبة الحداثة التي تنادي بها تلك النخب. ومن نافل القول إن لهذا الموقف جذوراً عميقة في ثقافة “الرجل الأبيض” التي يستمد منها التحديثيون معظم رؤاهم، والتي تنظر إلى مخالفيهم نظرة دونية باعتبارهم بشراً أقل قدرة على الفهم وتمثل الحضارة والمدنية، وتميل إلى معاقبة البشر بسبب أصولهم وثقافاتهم الأصلية، والأسوأ معاقبتهم بسبب شروط حياتهم الموضوعية التي ولدوا فيها من دون إرادتهم.

لقد جاء معظم المعلقين الغاضبين في الحملة ضد الكاتب حسام جزماتي، من منطقة محددة، هي شمال غربي سوريا التي تقع تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام”، وقد عكست ردودهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة شروط الحياة والعيش في تلك المنطقة من النواحي كافة، وبالتزامن معها كانت ثمّة ترندات لبقية السوريين في المناطق الأخرى، لا علاقة لها بقصة فتيات الجامعة، رغم أن غالبية السكان في كافة هذه المناطق مسلمون ويهمهم أمر الدين بلا شك.

ففي شمال شرقي سوريا، كانت القصة المُزامنة هي “فَزعَة” أبناء العشائر لبعضهم البعض على خلفية امتعاض سوريين آخرين من سلوك اللاجئين من أبناء إحدى قبائلهم، والذين انطلقوا في موكب عرس على الطريقة التقليدية في أحد شوارع برلين، وانتشرت فيديوهات للحدث تكشف قطع الطرق بسبب ذلك، وقد دافع القبليون أيضا بشراسة ضد امتهان ثقافتهم واحتقارها. أما في أوساط اللاجئين في تركيا وأوروبا، فالحديث يدور، في “فايسبوك” و”تيك توك”، عن “يوتيوبر” سوري أوقع بأحد مخبري النظام ودفعه للهروب إلى تركيا بطريقة مثيرة. أما في مناطق سيطرة النظام، فقد كان الحدث البارز استقبال نقيب الفنانين لمغنية شعبية كان قد أصدر قراراً بمنعها من الغناء في المرابع العامة بسبب استخدامها ألفاظاً خادشة للحياء في أغانيها، لكن حملة سخرية وضغط في وسائل التواصل الاجتماعي أرغمته على الرجوع عن قراره وإعادة الاعتبار لها والتقاط الصور إلى جانبها، لتصبح تلك الصور “تريند” ذلك اليوم.

من البديهي أن ما يُكتب ويعرض في شبكات التواصل الاجتماعي، مجرد أعراض لمشاكل قائمة. لكن غير البديهي والمُختلَف بشأنه حتى الآن، هو مقدار مساهمة تلك الوسائل في حلّ ومعالجة المشاكل التي تستعرضها، وهو سؤال ما زال ينتظر مرور الزمن لوضع إجابة مقنعة له. ومع ذلك، يمكن اعتبار الحروب الحالية في تلك المنصات، نوعاً من الصراع على المستقبل، وقد تكون صراعات المستقبل ذاتها.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا