فشل الكرملين السوري

بسام مقداد

بوتين مستقبلا بشار في مركز القيادة الروسية في دمشق/انترنت

جسر: رأي:

بعد أقل من شهر على نشر مواقع “طباخ بوتين” يفغيني بريغوجين الإعلامية سلسلة مقالات “اكتشفت” كهوف فساد النظام السوري، ووصفت الأسد ب”العاجز” عن إدارة السلطة، تراجعت هذه المواقع عن اتهاماتها تلك، ونشرت نقيضها تماماً. في مقالة بعنوان ” العمليات العسكرية لا تمنع الرئيس السوري الأسد من استنهاض البلاد”، نقلت “وكالة الأنباء الفدرالية” التابعة لبريغوجين عن خبير روسي تساؤله المعجب بقدرات الأسد على استنهاض سوريا بفترة قصيرة، يهتم خلالها بمؤسسات الدولة والقضاء على الإرهابيين وإعادة المهجرين.

بوتين مستقبلا بشار في مركز القيادة الروسية في دمشق 7 كانون الثاني/يناير 2020

منشورات “الطباخ”، التي تراجعت عنها مواقعه قبل أقل من شهر على نشرها، كانت قد أثارت موجة عارمة من ردود الفعل واتهامات الكرملين بالوقوف وراءها. وكان إعلام الكرملين قد نأى بنفسه في حينه عن هذه المنشورات، ولم يتطرق إليها من بعيد أو قريب. إلا أنه سرعان ما وجد نفسه منخرطاً في الرد على ما خلفته هذه المنشورات من تأكيدات على خلاف مستحكم بين دمشق وموسكو، وعن قرب إستقالة الأسد بضغط من الكرملين. وكالعادة، قامت مواقع الكرملين الإعلامية الكبرى، مثل تاس ونوفوستي، بإستصراح خبراء ودبلوماسيين نفوا شائعات إستقالة الأسد ووجود خلافات بين موسكو ودمشق. فقد نشرت تاس الأحد المنصرم، نقلاً عن “مهر” الإيرانية، تصريحاً للسفير الروسي في طهران ليفان جاغاريان، قال فيه بأن ثمة من يستغل القول بأن روسيا مستاءة من الأسد، علماً أن هذه التصريحات (منشورات الطباخ) هي تصريحات خاصة، لا تعكس موقف الحكومة الروسية الرسمي. واضاف بأن روسيا سوف تستمر في دعم العملية السلمية في سوريا وحكومة البلد الشرعية، ومستقبل سوريا هو ملك شعبها، وبوسعه هو فقط أن يتخذ القرار بشأن بلده. ولم ينس السفير، بالطبع، الإشادة بجهود أطراف منصة أستانة، إذ “بفضل جهودنا الثلاثية أمكن وقف العمليات العسكرية وبدء المفاوضات”.

من جهتها كانت نوفوستي قد استبقت تاس بنشر تصريح للسفير الروسي السابق في دمشق الكسندر زوتوف، لم يختلف في مضمونه عما جاء في تصريح زميله في طهران، تحدث فيه عن استغرابه لشائعات استقالة الأسد القريبة. لكن اللافت كان نشر الوكالة، في سياق النص عينه، تصريحاً لأحد المحاضرين في معهد العلوم الإجتماعية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، تميز بلهجته الحادة ضد الأسد. فقد قال المحاضر دانيال ديميدنكو، أن استقالة الرئيس السوري المحتملة ليست مستغربة، فالأسد، ومنذ مطلع “الربيع العربي” في العام 2011 لم يكن شخصية مريحة. فهو لا يتقبل المعارضة، ولا يتقبل الأكراد، الذين يسيطرون على ما وراء الفرات بأكمله، وهو ليس مقبولاً من الولايات المتحدة ومن حكام الخليج. والحديث لا يتناول الأسد كشخصية سياسية، بل يتناوله كرمز للحكم السابق، كرمز لحزب “البعث”، كرمز لاضطهاد الأكراد، كرمز لذلك النظام الذي قامت الإنتفاضة ضده، حسب ديميدنكو، الذي اعتبر أن استقالة الأسد ستكون منطقية، لولا غياب الشخصية التي تحل مكانه. ويستطرد الرجل بالقول، أن الأسد هو الذي يعرقل التسوية الآن، كما كان يعرقلها منذ العام 2011، وموسكو أعلنت غير مرة، أن القضية ليست في الأسد، بل في تسوية الوضع في سوريا، وهو لا يعتقد أن “موقفنا قد طرأ عليه تغيير مبدئي الآن”.

صحيفة الكرملين “vz”، التي صمتت طيلة الشهر المنصرم عن منشورات إعلام “الطباخ” وردود الفعل عليها في معظم صحف العالم، لم تتأخر الآن عن الإدلاء بدلوها الإثنين المنصرم في سياق مقالة بعنوان “سيتعين على موسكو تذكر الشرق الأوسط”. قالت الصحيفة في مقالتها بأن الوضع في الشرق الأوسط سيلتهب هذا الصيف، وعلى موسكو أن تعمل ليس إطفائياً فحسب، بل قد يتعين عليها تعلم “مهن جديدة مفيدة”، من دون أن تذكر من المهن تلك غير مهنة “مصلح الشرق الأوسط”، التي اعتاد الكرملين أن ينسبها لنفسه.

وبعد أن تستهل الصحيفة مقالتها بالحديث عن “صفقة القرن”، وعن إستفادة روسيا منها، كيف ما انتهت إليه هذه الصفقة، تقول بأن المرجل السوري لا يزال يغلي، والسبب ليس في العمليات العسكرية الدائرة بين السلطة والمعارضة، التي “لم يُجهز عليها” بعد، بل السبب في الوضع المعلق للعمليات السياسية وعدم إنجازها. وبعد أن تستطرد في سوق الإتهامات لتركيا بوضع الحطب تحت المرجل السوري، تقول بأن تركيا، مع ذلك، ليست هي “وجع رأس” موسكو الرئيسي، بل العقبة الأكثر جدية في طريق “إنجاز نصر روسيا النهائي” في سوريا موجودة في دمشق. والشائعات التي تنشط في الأيام الأخيرة حول البرودة الشديدة في العلاقات بين دمشق وموسكو، يتداولها صحافيون غربيون وخبراء روس يخدمون مصالح السعودية، لكن يتداولها أيضاً خبراء جد أكفاء، حسب الصحيفة. 

وعلى الرغم من أن الرسميين الروس ينفون هذه الشائعات بالطبع، ويصفونها بالمؤامرات الغربية، إلا أن “لا نار بلا دخان”، وهذه النار تشتعل منذ فترة بعيدة، حسب الصحيفة. لدى روسيا والأسد نظرات مختلفة إلى عملية التسوية السياسية في سوريا. فالأسد، وكذلك من يقف وراءه من الضباط السوريين والإيرانيين، ليسوا مستعدين “للمصالحة” مع الإرهابيين المعتدلين (هكذا في نص الصحيفة)، الذين فجروا الحرب الأهلية، كما ليسوا مستعدين لتقديم تنازلات لهم، وكيف بالأحرى دمجهم (ومن يقف خلفهم من الأتراك والسعوديين) في نظام حكم البلاد.

أما روسيا، فهي تحاول أن تبين، أنه لا يمكن إنهاء الحرب الأهلية دون المصالحة والتنازلات، إلا أنها لم تنجح حتى الآن، مما يعني أنها مضطرة لمواصلة الحملة السورية، لأنها التزمت بإجراء العملية السلمية، ولأنها لا ترى ما يمكن خشيته من وجود مصالح بلدان مختلفة في سوريا. ويبدو للصحيفة، أنه تجري الآن في سوريا عملية تسوية سياسية جدية لجميع التناقضات، وسيتضح في الصيف بما ستنتهي إليه هذه العملية.

لكن من الذي يمنع الكرملين من “إنجاز نصر روسيا النهائي” في سوريا، ويلزمه بمواصلة العملية العسكرية في سوريا “لحل جميع التناقضات” خلال الصيف القادم ؟ الخبيران الروسيان أنطون مارداسوف وكيريل سيمينوف المرحب بهما في معظم المواقع الناطقة بالروسية، بما فيها موقع “المجلس الروسي للعلاقات الخارجية”، نشرا في 15 من الجاري في موقع “Riddle” المستقل والناطق بالروسية والإنكليزية، ويتشكل مجلس أمنائه من خبراء وأكاديميين روس وغربيين ومن دول البلطيق، مقالة مشتركة بعنوان “روسيا من دون الأسد” (وكأن الكاتبان يكرران بعنوانهما هذيان خالد العبود). يستعرض الكاتبان في مقالتهما التطورات خلال الشهر المنصرم على منشورات “الطباخ” وسيد مرتزقة “فاغنر”، ويعتبران أنها مجرد تناقض مصالح بين يفغيني بريغوجين والنظام السوري، كما يعتبران مقالة الكسندر أكسينيونك، نائب رئيس المجلس الروسي ذاك، التي تداولتها معظم صحف العالم، بأنها رأي شخصي تزامن نشره مصادفة حينذاك مع نشر مقالات إعلام الطباخ.

يقول الكاتبان، أن الدبلوماسيين والعسكريين الروس، الذين يتلطون وراء الكلام عن خيار الشعب السوري وضرورة الحفاظ على مؤسسات السلطة، يقومون بتقليد للعملية السياسية لتسوية الصراع السوري، ويضعفون المعارضة في ظل تعزيز شخصية الأسد. فهم يدركون أنه طالما بقيت أسرة الأسد في السلطة، تصبح مستحيلة أية إصلاحات جدية. وأهم ما في الأمر، برأيهما، أن روسيا، وخلال السنوات التي انقضت على انخراطها في العملية العسكرية، قد عجزت عن مأسسة وجودها في سوريا، إذ عجزت عن إيجاد قوى مخلصة لها كلياً ولوبي سياسي مؤثر، يمكن لموسكو أن تستند إليه، وهي تدفع دمشق نحو هذه الخطوات أو تلك.

ويخلص الكاتبان للقول، أن عودة روسيا إلى الشرق لأوسط مع حملتها العسكرية، تهدد بأن تتحول بالنسبة للموسكو، إلى مأزق “شرق أوسطي” إذا لم تستخلص من كل مسار التطورات السورية الاستنتاجات الضرورية، ولم يتم تصحيح التعاون مع الأسد ضمن الإمكانيات المتبقية، التي تضيق باستمرار. 

____________________________________________________________________________________

*نشر في المدن، اﻷربعاء 20 أيار/مايو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا

قد يعجبك ايضا