ما العرض الذي رفضه بشار من ترامب؟

عمر قدور

جسر:مقالات:

لم تكن جريدة “الوطن”، التي توصف بالمقرّبة من بشار الأسد، المبادِرة إلى كشف زيارة مسؤولَيْن أمريكيين إلى دمشق في شهر آب. صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية هي التي نبشت خبر الزيارة السرية، التي قام بها مسؤول واحد بحسب معلوماتها، قبل نشر خبر جريدة “الوطن” التي أعلنت عن لقائهما بعلي مملوك مدير مكتب الأمن القومي، حيث، بلسانه، أبلغت سلطة الأسد الأمريكيين بعدم استعدادها للنقاش أو التعاون مع واشنطن قبل البحث في ملف انسحاب القوات الأمريكية من شرق سوريا.
بحسب صحيفة “الوطن” أيضاً، فوجئ المسؤولان الأمريكيان بالموقف السوري، فهما قدِما على نية مناقشة موضوع استعادة المحتجزين ربطاً بالعقوبات الأمريكية المتصاعدة على سلطة الأسد فحسب. استخدام تعبير المفاجأة من قبل الإعلام الأسدي يرتبط عادة برفع سقف المطالب إلى حد لا يقبل به الطرف المقابل، ويتضمن معنى الصمود والانتصار لسلطة تأبى التراجع ولو قليلاً مهما بلغت من الضعف.
ثم علينا، وفق المدلول السريع لكلمة مفاجأة، أن نتخيل موفدين أمريكيين حجزا بطاقة طائرة إلى دمشق بعد الحصول على موعد من علي مملوك، ومن أجل أن يطرح كل جانب ما يشاء. هكذا، كأن ترتيب الزيارة “عبر وسطاء” لا يمر بتحديد موضوع التفاوض بينهما، أو يتعدى موضوع التفاوض إلى أجواء من “الإيجابية” ترجح حصول الاتفاق. بهذا المعنى، وهو من بديهيات السياسة، لا تأتي المفاجآت إلا لتقدّم تنازلاً غير متوقع، أو لتظهر تصلباً يخالف الأجواء التمهيدية ويقرر سلفاً فشل جلسة المباحثات.
المفاجأة الأسدية تعني نسف المفاوضات من أساسها، وربما يتعين علينا تفنيد المزاعم عن استعداد ترامب للانسحاب من سوريا في مقايضة يسترد فيها المحتجزين الأمريكيين ويصوّره نصراً في حملته الانتخابية. فقرار مثل الانسحاب، كفدية لتخليص الرهائن، لا يمكن قبوله كنصر، وأقل ما سيُقال فيه من خصوم ترامب أنه يخضع لمنطق الإرهاب، ويشجع أية مجموعة أو سلطة على خطف أمريكيين كورقة ابتزاز سياسية. ثم إن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا لا حضور له في الجدل الانتخابي، والديموقراطيون ليسوا من أنصار الانسحاب، وسيصوّرونه تنازلاً وإهانة لمكانة أمريكا، وأيضاً تخلياً عن الحلفاء الأكراد يضرّ بسمعتها أمام حلفاء آخرين أو حلفاء محتملين.
أن يكون ترامب ميالاً “شخصياً” إلى الانسحاب من سوريا، هذا شأن آخر، ورأينا من قبل كيف كبح مسؤولو الإدارة “ومن خلفهم ربما قادة الحزب الجمهوري” توقَ الرئيس إلى الانسحاب. هذه القضية كما نعلم متصلة بالعلاقة والصراع مع موسكو، وبالتموضع الأمريكي في عموم المنطقة، وبامتلاك القرار المتعلق بمستقبل التسوية في سوريا. في تعليقه بعد انكشاف زيارة روجر كارستينز وكاش باتل، قال وزير الخارجية مايك بومبيو أن بلاده لا تغير سياساتها ولا تدفع مقابل استعادة الرهائن. يستطرد بومبيو بأنهم يعملون على إفهام الجهات الخاطفة أن الإفراج عنهم هو مصلحة لها، أي أن هناك ثمناً في المحصلة، لكن ليس من حساب السياسات الأمريكية الكبرى.
يغري وجود وصايتين على الأسد بردّ الإقدام على مفاوضة واشنطن إلى جهة منهما، ثم اعتبار الجهة الأخرى مسؤولة عن إفشال المفاوضات التي لم تكن تعلم بها من قبل. إلا أن هذا الاحتمال “ما لم يتم التحقق منه” يبقى ضعيفاً بالمقارنة مع سلوك سلطة الأسد في مناسبات سابقة، فهي لا تدخل للمرة الأولى في عملية تفاوض، ثم ترفع سقف مطالبها إلى الحد الذي لن يقبل به الطرف الآخر. في الحالة الأخيرة، من المؤكد أن سلطة الأسد تريد قنوات تواصل مع واشنطن، وهي أيضاً لا تريد نجاحاً تفاوضياً يمس ثوابتها.
العرض الأمريكي لم يتسرب إلى الإعلام، إذا كانت قد وضعت على الطاولة “فدية” محددة كما يحدث عادة في هذه المقايضات. هو تسرب بعموميته، وبما لم ينفه أي من الطرفين؛ إطلاق سلاح مختطفين أمريكيين مقابل تنازلات أو تساهل أمريكي في العقوبات المفروضة على سلطة الأسد. من وجهة النظر الأمريكية، هناك مكافأة تقدّمها الإدارة؛ ملموسة بالتساهل في موضوع العقوبات، وأسهل ما في ذلك “على سبيل المثال” السماح للإدارة الذاتية بتوريد النفط، أو أية استثناءات مشابهة يمكن الإعلان عنها لأسباب إنسانية. الوجه الآخر للمكافأة هو إظهار الأسد مستعداً للتفاوض والمرونة، ما قد ينعكس بالتعويل على “مرونة” يبديها في المفاوضات السورية-السورية، وما قد يشجع دولاً أخرى على فتح قنوات جانبية معه.
بينما كان ينكشف خبر زيارة المسؤولين الأمريكيين السرية إلى دمشق، أتت الصور من شوارع دمشق لترينا طوابير غير مسبوقة أمام أفران الخبز “المدعوم”، وأمام محطات التزود بالوقود، قبل رفع أسعار المحروقات، ثم ورود الأخبار عن التزاحم لشراء الخبز “السياحي” غير المدعوم في دلالة على شح الدقيق. لو لم ينسف علي مملوك المفاوضات مع الزائرين الأمريكيين لربما كان هناك وضع مختلف، لا يخلو من الأزمات بالطبع، لكن ربما لم نكن لنتحدث عن أزمة جوع جراء فقدان الخبز، ولا عن نقص حاد في المحروقات سيتفاقم أثره مع حلول الشتاء، وسيؤدي رفع أسعارها إلى ارتفاع كافة الأسعار والخدمات الأخرى.
إعلام الأسد، الذي ينقل رفض مملوك مناقشة أي موضوع قبل مناقشة الانسحاب الأمريكي، هو نفسه الذي واظب من أشهر على اعتبار العقوبات الأمريكية هي السبب في معاناة السوريين، وفي الأيام الأخيرة كان أكثر إلحاحاً على هذه النغمة. وإنه لمن المستغرب “منطقياً” أن تفوت سلطة الأسد فرصة التخفيف من العقوبات لقاء الإفراج عن مختطفين أمريكيين، أو ربما عن جثثهم إذا كانوا قد لقوا حتفهم. منطقياً، الجزَرة الأمريكية مهما كان حجمها مفيدة أكثر من الاحتفاظ برهائن لن تسمح أية إدارة أمريكية باستخدامهم لابتزازها في سياساتها الكبرى، إذا تغاضينا نهائياً عن الجانب الإنساني في موضوع المحتجزين بتشجيع مما نعرفه عن ملف المعتقلين السوريين.
رفضُ بشار عرض ترامب هو رفض ما هو متاح، وما يُفترض أن يكون بحاجة إليه فيما لو رأيناه رئيساً يكترث بمصائر الواقعين تحت سلطته، وتحديداً أولئك الموزعين بين طوابير ذات أطوال قياسية للحصول على الخبز أو الوقود. إن أي مختطِفٍ قد يرفض الفدية المعروضة طالباً فدية أكبر، وعندما يطلب ما هو في حكم المستحيل فذلك لن يكون خبراً ساراً للرهائن، والرهائن في حالتنا ليسوا فقط أمريكيين لا يُعرف مصيرهم، هم أيضاً سوريون كان يمكن أن يكونوا أقل تضرراً في حال نجحت الصفقة، أي في حال كان بشار مكترثاً بأحوالهم.
لا يخرج إعلام الأسد عن صفاقته المعتادة في تسويق ما حدث كموقف “مبدئي مشرّف”، وكأنه يُنقص من شرف سلطته الإفراج عن مختطفين! أما الأهم فهي الرسالة التي يبدو أنه تقرر تسليمها للأمريكيين والمضي بها داخلياً إلى النهاية، الرسالة هي الامتناع الكلي عن تقديم أية تنازلات مهما كانت بسيطة تحت عصا العقوبات وجزرتها. الرسالة الأخرى هي أنه يتعين على الأمريكيين تقديم فدية من نوع آخر تماماً، فهم يستطيعون البقاء في شرق سوريا بقدر ما يشاؤون، ويستطيعون الإبقاء على العقوبات أيضاً. الفدية المطلوبة هي تطمينات تخص مستقبل الأسد، المستقبل الذي لا يبدو محسوماً في واشنطن حتى الآن.
المصدر: صحيفة المدن
قد يعجبك ايضا