مجزرة حماة: كيف فعلها حافظ الأسد؟

عمر قدور

ما أن تُذكر مجزرة حماة حتى يُذكر معها فوراً رفعت الأسد، بل صار لقب “جزّار حماة” واحداً من ألقاب له. في أذهان كثر لا تغيب بالطبع مسؤولية حافظ الأسد، بوصفه الرئيس وصاحب القرار النهائي، إلا أن شيطنة شقيقه رفعت تتغلب في معظم الأحيان لتضعه في الصدارة التي يعشقها، ولا يمانع في احتلالها لأي سبب كان. متأخراً جداً، أنكر رفعت مسؤوليته بطريقة كاريكاتورية، كاد ينفي بها معرفته بوجود مدينة اسمها حماة، وكأنه يخشى التفريط بذلك اللقب.

قبل مجزرة حماة “شباط1982″، كان رفعت قد حمل مسؤولية مجزرة سجن تدمر في 27 حزيران1980، والتي قادها بشكل مباشر صهره الرائد آنذاك في سرايا الدفاع معين ناصيف. أيضاً، يكاد الباحث اليوم يخرج بحصيلة مفادها أن رفعت غضب بسبب محاولة اغتيال حافظ، فأوعز إلى قواته سرايا الدفاع بالانتقام من الإخوان المسلمين المعتقلين في سجن تدمر، ليخرج حافظ بريئاً من المجزرة فوق أنه كان ضحية محاولة اغتيال!

لن نعيد وقائع المجزرة التي تمر خلال هذا الشهر كاملاً ذكراها الحادية والأربعون، ما سنتوقف عنده هي الكيفية التي دبّر بها حافظ الأسد مسرح المجزرة. ولكي نبتعد عن شبهة الدهاء، والتدابير شديدة الإحكام التي تُنسب إليه في سياقات أخرى، سنستعرض بإيجاز مصدر إلهام حافظ الأسد الذي ساعده على التفكير في صناعة ظاهرة رفعت والتساهل مع الإخوان المسلمين في التوقيت نفسه.

في مستهل انقلابه، وقبل تسلمه رسمياً منصب الرئاسة، قدّم حافظ الأسد نفسه بديلاً معتدلاً عن صلاح جديد الراديكالي الذي يريد أخذ البلاد شرقاً، إلى النموذج الصيني الماوي على نحو خاص. المرويات تقول أنه نجح في مسعاه، وإن أتى القبول به كرئيس علويّ بتدرجات تتضمن شرائح سنّية تحالفت معه، وأخرى قبلت به على مضض، وثالثة ابتلعت “السمّ” عنوة.

على كل حال، سينتظر حافظ الأسد حتى السادس من أوكتوبر1973 ليكتسب مشروعية حقيقية و”وطنية”، فهو قد أصبح بطل نصر “مزعوم” على إسرائيل، وكان قد دخل الحرب بالشراكة مع مصر. بعبارة أخرى، جمع الأسد آنذاك الحرب على إسرائيل والانتماء إلى العمق العربي بأغلبيته السنّية، ولمصر رمزية خاصة لدى نسبة كبيرة من السوريين تجعلها أقوى رمز لذلك العمق.

إثر الحرب، ستتوطد علاقة الأسد بالخليج، بل لم تكن العلاقة السورية-الخليجية بهذه المتانة يوماً، ومن المؤكد أن المعونات الخليجية السخية شجعته على الانفتاح داخلياً وخارجياً، وإن فتحت عينيه في الوقت نفسه على مغانم السلطة إذ شهدت الخزينة العامة فائضاً غير مسبوق. سينتهي شهر العسل، الذي استمر عامي 1974 و1975، مع تدخل الأسد العسكري المباشر في لبنان، سينتهي داخلياً أولاً، قبل أن تنفض دول الخليج على التوالي أيديها منه وتقطع عنه أنابيب الدولارات.

بتدخله في لبنان، فقد الأسد ركائز مشروعيته لدى معظم السوريين، فهو بمفردات تلك الحقبة دخل ليساند تحالفاً مسيحياً رجعياً، معادياً العروبة بينما لا يعادي إسرائيل، ضد تحالف من المنظمات الفلسطينية والسنّة والدروز واليسار التقدمي. حتى موسكو عارضت تدخله، لكنه حصل على الجائزة التي أرادها بالمباركة الغربية، وتقديم نفسه كحامٍ للمسيحيين في الشرق.

انطلاقاً من التدخل في لبنان، نرى أن حافظ الأسد انتبه إلى الاستثمار في الجانب الطائفي، بعدما كان يسعى بكل جهده ليطمسه. نتحدث هنا على نحو خاص عن الفترة بين بدايات عام 1976 وحزيران1979 الذي شهد تنفيذ الطليعة المقاتلة مجزرة مدرسة المدفعية في حلب، وهي الفترة التي شهدت بروزَ دور المخابرات على نحو مكثف، وتدخُّلَ كافة فروعها في الحياة العامة، أما حملات الاعتقال والترهيب فطالت وقتها اليساريين والمنتمين إلى “البعث العراقي” أو البعثيين من بقايا “تيار صلاح جديد”.

في الفترة التي نتحدث عنها نجزم، من معرفتنا بطبيعة السلطة، أن مخابرات حافظ الأسد كانت تطلعه أولاً بأول على نشاط الإخوان المسلمين، وكان بارزاً على صعيد الدروس المفتوحة للجميع في “التوعية الدينية”، مع التنويه بتلك المخصصة للناشئة وكانت محط أنظار الطليعة المقاتلة، وكذلك نشاط الإخوان في العديد من الجمعيات الخيرية. بالتأكيد أيضاً كانت نشاطات الطليعة معروفة بعمومها لأجهزة المخابرات، فلا يعقل أن يتناقل الناس أخباراً مثلاً عن معسكر تدريبي للطليعة في غابات الفرلق وتكون المخابرات غافلة.

بسرعة شديدة، مع تدفق المساعدات الخليجية بعد حرب تشرين، ظهرت صورة رفعت الفاسد اللاهث وراء الثراء، على الضد من شقيقه “الرئيس الزاهد”. الأخطر حدثَ لاحقاً، في التوقيت نفسه الذي نتحدث عنه، وفيه ظهرت على نحو لا يمكن إلا أن يكون متعمَّداً صورة رفعت العلويّ الطائفي. هكذا، راح تعبير “جماعة رفعت” يغزو حزب البعث والدوائر الحكومية، وأحياناً مستويات متوسطة من أجهزة المخابرات. ميزة هذه الجماعة بولائها لرفعت، القائد رفعت بتعبير صار يُستخدم، وبطائفيتها المعلنة بخلاف النهج الإعلامي الرسمي.

بالطبع لا يخفي تنظيم الإخوان سنّيته التي نشأ أصلاً عليها، وهو شأن مختلف عن استثمار الأسد الذي يزعم أنه يمثّل الدولة. كما لا يصعب توقعه، قدّمت “النسخة العلوية” من رفعت ما هو متوخى منها، وكانت أفضل سند للمستوى الشعبوي من خطاب الإخوان الذي استخدمها للتخويف من علونة الدولة.

هل وقع الإخوان في الشرك الذي حاكه الأسد؟ ربما، ولا يزيد في رصيد المذكور إذا تفوق عليهم بالدهاء أو الخبث. لا ينبغي بأي حال نسيان أنه أيضاً كان يمسك بإحكام كافة مفاصل السلطة، ما يعطيه أفضلية التحكم بالأحداث، ويحمّله القسط الأكبر من المسؤولية بحكم موقعه هذا. لقد أتت مجزرة حماة حصاداً لما بدأه حافظ الأسد منذ تدخل في لبنان، وواحد من جوانب الافتراق بين السوريين محاولة تغليب الرأي القائل بأن طائفية الإخوان هي السبّاقة، وهو رأي يتجاهل على الأقل ظاهرة رفعت والفارق في المسؤولية بين تنظيم طائفي حقاً وسلطة ينبغي ألا تكون كذلك بحكم استيلائها على الدولة.

حجم وفظاعة مجزرة حماة يدلان أيضاً على كونها مبيَّتة، فمحاصرة المدينة لمدة شهر، وقتل ما يقارب أربعين ألف شخص والتنكيل بمن تبقى، فظائع لا يمكن أن تكون ردّ فعل على عنف الطليعة المقاتلة المحدود بإمكانياتها. كان ينبغي أن تكون المجزرة كبرى بحيث لا تُنسى، لا فقط لإرهاب وتخويف السوريين من عواقب أي تمرد مقبل، وإنما من أجل كسب ولاء آخرين متورطين طوعاً أو كرهاً. ما زالت المجزرة ماثلة بسبب غياب العدالة، ولأن اكتساب الولاء بالمجازر لم يتوقف بعد.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا