معرض بوخوم في ألمانيا للكتب والأرواح: دبابير بوخوم وصلوات بالقصائد

أحمد عمر

من الفعالية/المصدر

جسر: متابعات:

من الفعالية/المصدر

عرَّج علي محمد الأحمد مدير دار نشر إنتر أسيست، قادماً من دارم شتات، مدينة الأمعاء، إلى مدينة الخرطوم هو اسم روسلس هايم، وهو اسم عاصمة السودان الشهيرة أيضاً، وكانت السودان الكريمة قد نزعت جنسيات السوريين من أمعائهم، وكانوا قد اشتروا الجنسية السودانية بمال كثير بعد أن تولى أمرها العسكر. انطلقنا صباحاً، وكان محمد يسمع أغنية “فاتت جنبنا”، وهي رواية مغنّاة، من ألحان حسين السيد.

فاتت جنبنا:

قصة الأغنية كانت تنتهي بإعجاب الحسناء التي مرت بهما، بالشخص الثاني، وليس بالمغني الخاسر، لكن محمد عبد الوهاب أقنع حسين السيد بتحويل النهاية إلى نهاية سعيدة، وجعل حليم هو الفائز في النهاية، والأغنية قصة قصيرة جميلة تبدأ بمرور فتاة بحليم وصديقه الحميم، فانشغل بها حليم وأنسته نفسه، ثم انتبه من غفلته وقال: أنا بفكر ليه، وباشغل روحي ليه، وفطن وقد احتار بين الوفاء وبين الحب، إلى أنها ربما تبسّمت لصديقه وليس له، وكثرت وساوسه وزادت أشجانه، وقال كيف أعرف أنها تقصدني أنا، ولماذا أنا وليس هو؟ وبدأ قلبه يغني لحن حب، وسمع كلمات لم ينطقها بشر، والتفت إلى زميله الذي نسيه وتساءل في السر: هل أحس بما أحسست، وانشغل مثلما انشغلت، وواصل حليم السير في الطريق الطويل إلى مدينة بوخوم، وهي مدينة الخشب، فراح يخلط ويهذي، يغلبه الضحك حيناً، ويكفكف الدمع حيناً، ولم يستطع مغالبة دموعه، ولم يجد من يبث له شكواه، ثم اتخذ قرار الحب: أنا حبيتها، أيوه أنا حبيتها، وانتظر إلى أن جاء جوابها: أنا من الأول بضحكلك يا أسمراني.

وكان الأسمراني إلى جانبي يتبع الإشارة الملاحية على جهازه الهاتفي، ويهوى مثلي ترجمة أسماء الأعلام الألمان وكنياتهم: الحداد، الطحان، النجار، الصبّاغ.. وأسماء البلدان والقرى، والمدن والقرى متصلة، فلا فرق كبير بين القرية والمدينة إلا بالتقوى، فكل القرى مخدّمة بأحسن الطرق والأنوار، وخدمات البريد والبرق والهاتف، وتجاوزنا عمارة وصفها محمد بأنها عمارة شيوعية. وكانت عمارة مبنية من القرميد الصلصال كالفخار، وسألته سؤالاً نافلاً: ما هي العمارة الشيوعية؟

فأجاب جواباً بسيطاً مفحماً مسكتاً يستحق عليه أن تحبه بطلة الأغنية وتفضله على الأسمراني الثاني، عليَّ أنا، والأول أسمراني وله عقيصة طويلة مثل ذيل الحصان: هكذا.

عبرنا البلدان والقرى، وهو يترجم أسماء المدن المكتوبة على الشاخصات: مدينة الجديلة، مدينة الطعام، مدينة بكلة الشعر، الحديقة الطويلة، حديقة الخيول، وعثرنا في طريقنا على شاحنة ثلاجة، لصقت صورة إنجيلا ميركل على بابها الخلفي وقد فتحت ذراعيها، وتجاوزها محمد بسرعة، فأقسمت عليه بالذي خلق آبائه وأجداده أن يهدئ السرعة حتى التقط صورة للشاحنة فاعتذر، وقال: أسوق السيارة كما يساق قطار الرصاصة.

حتى وصلنا إلى غايتنا، ولم يكن قد أحضر كثيراً من الكتب، فهو لا يطمع سوى ببيع خمس نسخ من كل كتاب. رحّب بنا منظمو المعرض الذي أقيم بمناسبة عيد المرأة، بادرنا إلى نقل الكتب، وعرضها على نضد خصصه لنا سدنة المعرض، بجانب نضد وقفت عليها لوحات الفنانة التشكيلية جيهان إبراهيم.

علاء عبد المولى مصلوباً:

أول فعل قمت به هو أني أسرعت إلى منهل الطاقة، وزرعت فيه شاحني ذو الذيل الأبيض، وأنا أسوق إليه هاتفي لكي يرتوي من الضوء، وجلست أراقبه من مكمني، فالهاتف إذا ضاع، ضعت معه، ففيه ذكرياتي ومنزلي الأول، وصور حبيبتي الأولى، وحبيباتي الكثيرات مثل أنجيلنا جولي وشارميلا تاغور و راج شيري، وحسابي البنكي، وهو الذي يهديني السبيل، ثم رأيت رجلاً يقترب من المنهل ويستغيث، فهاتفه في الرمق الأخير، وكان هاتفي قد رضع رضعتين، فنزعت حلمة اللبن من فمه وألقمتها هاتفه، وضحّيت بالشاحن ذي الذيل الأبيض، وعدت إلى مكمني، عينٌ على المنبر، وعينٌ على الشاحن حتى يفرغ، وهاتفي ينزف نزفا مثل صاحبه، به جرح قديم، ورحت أقرأ شعار الصباحية الشعرية التي أقيمت برعاية “الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا”، وهممت بأن أنتقد الشعار، فالصحافيون سوريون، لكنهم ليسوا في سوريا، الشعار الصحيح هو: الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد السوريين، وملاحظة أخرى وطنية هي أنهم يعتزون بسوريا، فهم لا ينسبون أنفسهم إلى شرق كردستان أو غربها كما يفعل موالو حزب الشارب الغليظ. ولم أعلم هل هو رشد أم غفلة؟ ملاحظة ثالثة: ليس في الصالة صور زعماء، ربح البيع هجار. وملاحظة رابعة: لم أجد رؤساء في الكنيسة التي صارت مركزا ثقافيا، كما في مملكة روج آفا، فعندهم رئيس اتحاد يضع ثلاث نظارات، وقبعة على رأسه، وأرخى شعرا طويلا، تلك عدة الرئاسة والملك، ويقول أشعارا بالية، لم تعد ترد حتى في بريد القراء: رائحة الحب تفوح من ثيابك، فتنهمر عليه مئات اللايكات البلاستيكية، وقلوب الحب وكأنه اخترع العجلة.

اقترب مني مراسل إحدى الفضائيات وقال: استعد، سنجري مقابلة سريعة، فلم ابتسم، الابتسام علامة الرضى، وانصرف لشأنه.

صورة جماعية/المصدر

دبابير النعمة:

التقيت بكثير من الصحاب من أيام الطفولة والصبا والشباب، لكني لم أعرف واحداً منهم، اقترب مني رجل وعانقني رغم تفشي الكورونا، ثم انتبه إلى أني لم أعرفه، وقال: ألم تعرفني؟

فضحكت ضحكة بلهاء وبحثت عن عذر فقلت: زهايمر، قال: أنا قادو يا رجل.. قلت: غريب، لقد سمنت يا قادو، والحقيقة إني لم أتذكر قادو بعد. قلت: هل ما زلت مثل أيام زمان تهجم على أعشاش الدبابير، تبدو متورماً من السمِّ، وكأنَّ قفيراً من الدبابير الحمراء العسلية لسعك؟ أما صديقي إبراهيم، فكان قد تضاعف وزنه، وقال لي: أنا أعيش في الفقير. بوخم مدينة دبابير النعمة.

كل الذين التقيتهم وأنكرتهم من كثرة لدغ الدبابير، كان قد سمنوا وهبلوا، إلا جان دوست، كان قد ذبل، فوضعت يدي على جبينه أقيس به حرارة الحب، وأنا أسأله عن الضوى والهزال، فقال: ليس حبا، نقلت بيتي وسكنت في الطابق الرابع. فسجلت في مفكرتي طريقة جديدة لخسارة أوزار الحرب على الطعام وربح الصحة. وكتبت: خسارة الوزن للبدناء ربح.

وحين أزفت الساعة، تتالى الشعراء على المنبر يلقون القصائد والكلمات، وعلمت أن صالة المعرض كانت كنيسة ذات يوم، وتحولت إلى صالة فاخرة بعد أن صبأ الناس عن دينهم، جميعاً، من غير مليحة بالخمار الأسود، وكانت الصلبان نائمة على الأرض، والأيقونات والتماثيل تندب زمناً مضى.

انشغلت بسماع القصائد ووجدتهم يصفقون للشاعر علاء الدين عبد المولى، الذي كانت ثعابين الغربة قد قرصته فتورم من الصحة والنعمة، وأحصيت مرات التصفيق ووجدت أنهم: صفقوا ثلاث مرات لعلاء، في بيت الله الذي لم يصفق فيه أحد للسيد المسيح حتى مات وحيدا مصلوباً.

وقال لي صديقي الروائي جان دوست هامساً: خطيب الحفل عديلي.

وقلت: ألا ترى أنه ينبغي أن يكون للصهر الأول، الصهر الكبير في العائلة، حق اختيار عدلائه من الأصهار اللاحقين، فقال: اتقِ الله يا رجل، لم يعد للأب ولا للأخوة صوت في اختيار الصهر، فتابع نومك.

مرَّ بي المراسل الطيب، وذكرني بالمقابلة، فلم ابتسم، فقد فقدت صواع الملك، بحثت عن الرجل الذي استعار مني الشاحن ذا الذيل الأبيض الطويل فلم أجده، وعن الشاحن ففقدته: استندت إلى صليب، وغفوت: ووجدت نفسي أغرق، وأغفو وأنا أنظر إلى تمثال للمسيح وقلت: إلهي إلهي.. لمَ “شبقني”؟

محمود درويش:

انتهت صلوات الشعر، وجلس العازف وليد جميل على المنصة يستدرج ألحاناً بعينها وخدِّها وأنفها إلى الاوتار، وكلما أشرف على صيد لحن مرَّ به ضيف صلى عليه وسلم، وأفسد عليه صيده وهربت السمكة، إلى أن كلَّ العازف من الصلاة والسلام، والتحيات والعناق، فالكرد قوم لا يخافون الموت، ثم بدأ يركع على آلته الوترية الطويلة، وكاد يسجد، وغنّت المغنية روجين كدو أغنية تردد صداها في الكنيسة، وصفق الحضور، ودعينا إلى مائدة، فأكلنا وشربنا، وانحنى عليَّ أحد المشرفين وقال: مبارك.. أنت الكاتب الأكثر مبيعاً في المعرض! فسألت عن النسخ المباعة، وكان عددها سبعا؛ نسخة بيعت بسيف الحياء، ونسختان بالمبادلة كما في زمن ما قبل اختراع النقد والعملة. جاء شاعر واقترح مبادلة ديوانيه بمجموعتين قصصيتين، فخجل الناشر واستجاب، والنسخ الأخرى اشترتها قارئة جاءت من مسافة بعيدة حتى تشتري نسخاً موقعة من الكاتب، فوجدتني، وأجبرتني على التوقيع، وكنت أبحث عن شاحني ذي الذيل الأبيض، وعن الهرِّ الذي التهمه، فاخترت لها عناوين نصوص من الكتب ووقعت لها بها فرضيت على مضض. كان محمود درويش يحبُّ التوقيع في المعارض، وبول شاول يأنف منها، يقال إن توقيع الكاتب يحسّن البيع. وتلك فرية كبيرة. انتهى المعرض سريعاً في الساعة الثالثة ظهراً، تلمست هاتفي فوجدته ميتاً من العطش إلى سقية من الكهرباء، ولم أجد شاحني، قصدت منهل الطاقة، وبحثت كثيراً عن الرجل الذي استعاره، فلم أجده.

العازف وليد جميل/المصدر

“بيست سيلر”:

الحضور كلهم تقريباً ناشرون وكتّاب وشعراء، والجمهور غائب، إما خائف من الوباء وإما زاهد في.. الوباء. لقد جئنا نبيع الماء في حارة السقايين.

حان موعد العودة، كيف نعود وقد فرغت هواتفنا من الطاقة والعزم، وضاع الشاحن ذو الذيل الأبيض؟ قال محمد: أظنُّ أني أحفظ الطريق. ودّعنا نسطور المعرض السيد هجار، وسألني عن اسم الهرِّ الذي “شبقني”: فقلت سامسونج، قال: أنا أسأل عن “الشابق” وليس “المشبوق”: فقلت: له قحف مستطيل وذيل أبيض طويل، فضرب كفا بكفٍّ ومضى.

برز لي المراسل الفضائي الطيب، ونصب كاميرته وسلط علي أنوار التعذيب وأخرج لي بوقا يلمه نصله القاتل، وقال: تفضل سنتحدث حديثا عاديا، فقلت: لم أظهر قط في صورة متحركة، صوري ثابتة، أنا رجل من القرن الهجري الأول، لذلك أرجو أن تعتقني، وحاول إقناعي، ستباع كتبي وأصير مشهورا، ويصير زكريا تامر ذكرى من التاريخ، فقلت:

والله لو وضعوا عشرة آلاف دولار في يميني وعشرة آلاف يورو في يدي اليسرى، ما تركت هذا الأمر أو هلك دونه.

وقد اخترت هذا المبلغ للمساومة، لأني سمعت مرة من أحد ضيوف مهرجان الجنادرية، إنه جائزة لكل ضيف، بمقابلة أو من غير مقابلة، فنظر إليَّ نظرة رحمة ورقّت رَحِمه لي، وكاد يأمر لي بقطف من العنب، ثم أعتق رقبتي قائلا: اذهب أنت حرٌ لوجه الله.

عدنا، وغنى عبد الحليم مرة ثانية فاتت من جنبنا، وعاد محمد إلى ترجمة أسماء المدن والقرى، وكانت قرى غير الأولى: قرية الذئب، قرية القرعة، نهر الوسل، ثم غفوت، وكنت قد سهدت ليلة أمس، والسهاد يجعل الجفنين العلويين العاشقين يشتاقان إلى الجفنين السفليين المعشوقين من طول البعاد والشوق، فقلت إن لم أجمع شمل أجفاني فما أجفاني، ثم أفقت، وعبد الحليم يقول:

بصيت لصاحبي لقيته جنبي وماهوش جنبي

عايز يقول كلمة اتقالت جوه في قلبي

ضعنا، وفَنَيَ منا الزاد، زاد المرشد الملاحي على الهاتف، وكانت الأرض إذ ذاك مفاوز ومهالك، حتى أيقنا بالهلكة، فاستسقى القوم، قالوا ما نستطيع أن نسقيكم، وإنا لنخاف مثل الذي أصابكم، فقال عبد المطلب لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته بما بقي من قوته، فكلما مات رجل منكم، دفعه أصحابه في حفرته، حتى يكون آخركم يدفعه صاحبه، فضيعةُ رجل أهون من ضيعة جميعكم، ففعلوا.

ثم قال: والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت، لا نضرب في الأرض ونبتغي، عجز. فقال لأصحابه: ارتحلوا، فارتحلوا، وارتحل، فلما جلس على ناقته، قال سيّد قريش: الحمد لله.. العمارة الشيوعية ما تزال في مكانها.

فقلت لصاحبي: قُد والله قضى لك، إنَّ الذي أراك العمارة الشيوعية، قد جعل الحسناء من نصيبك. انطلق، فهي لك.

ثم عثرنا مرة ثانية على شاحنتنا، شاحنة صورة ميركل، وقال محمد: أقسم أنَّ سائقها سوري.

ولم يكن في هاتفينا رمق أخير، نبلغ به الصورة، وخشينا ألّا يصدقنا أحد، وتذكرت شاحني ذو الذيل الأبيض الذي أكله الهُّر، وتركني أعزل وعاريا في مدينة الدبابير.

 

المصدر: زمان الوصل

قد يعجبك ايضا