مملوك في القامشلي: إعادة الأكراد إلى كرديتهم

 

منذ أيامها الأولى، انصبت مقاومة النظام للثورة السورية، على تصويرها كتمرد مسلح للعرب السُنّة، وحصرها بهذا النطاق الاثني والمذهبي، لتنفير بقية المكونات السورية منها، وتخويف العالم من تحولها إلى محطة جهادية جديدة.

ونجح النظام بابعاد مختلف الأطياف السورية عن “الثورة”، وترك العرب السنّة في الميدان وحدهم، متبعاً شتى الوسائل. وخدم أطياف من المعارضة السورية دعاية النظام تلك، خاصة الإسلامية منها، بل ودعمتها بأمثلة لا يمكن دحضها سياسياً.

في المقلب الآخر، التقط الطرف الكردي ممثلاً بحزب “الاتحاد الديموقراطي”، إشارات النظام مبكراً، واختط لنفسه طريقاً مضاداً للثورة السورية، وغير متطابق مع خط النظام ظاهرياً، لكنه يقع في صلبه وظيفياً. حزب “الاتحاد” بوصفه كردياً يسارياً، لم يقبل الانخراط في ثورة “العرب السنة”، وبالتالي اسباغ صفة وطنية تعددية وديموقراطية على الجانب الثوري، لا بل ساهم في تصويرها ودفعها لأن تكون ثورة العرب السنة، حين انفض الجميع عنها. الحزب الكردي أعلن بعد التبرؤ من الثورة السورية، ثورته الخاصة “ثورة روج آفا” المقلقة لتركيا، حليفة المعارضة المتحمسة.

لم تسمح الأوهام لا للعرب السنة، ولا لقادة “العمال الكردستاني” من الأكراد “القنديليين”، بفهم سياسة نظام الأسد البرغماتية، التي اثبتت تفوقها عندما يتعلق الأمر بالمؤامرات والدسائس والخداع. العرب ظنوا أنهم بكثرتهم ودعم دول في الاقليم لهم قاب قوسين أو ادنى من القفز إلى السلطة، وعندها لن يسمحوا لبقية المكونات بالاعتراض. ثمة فئة في المعارضة تستمد قوتها من تركيا، اعتقدت أن طريقها إلى السلطة، يمر على جثة طموحات الأكراد السوريين، فأمعنت بالضغط على هذه النقطة. فيما وجد أكراد قنديل أنهم وعلى غير توقع، يستطيعون انشاء وطنهم “الحلم” في الجزء السوري من كردستان، أضعف الأجزاء، ومنها القفز إلى هضبة الأناضول الدسمة.

لكن الحضور الاميركي المفاجئ أيضاً، والتحالف مع “وحدات حماية الشعب” الكردية، وتحويلها إلى “قوات سوريا الديموقراطية”، حرف مسار ومصير حزب “الاتحاد الديموقراطي”، وحوّل وجهة أحلامهم بعيداً عن الاستئثار بالقامشلي وبعض البلدات الحدودية من المالكية إلى عفرين. فوسّع قادة قنديل اهتمامهم إلى مناطق وثروات في العمق العربي، ليس بمستطاعهم حكمها والسيطرة عليها، من دون غطاء “وطني” ورضى تركي.

وهكذا بدأت دعاية كوادر قنديل المسيطرة في شمال شرق سوريا تتغنى “بوحدة الشعوب”، وبالأمم الديموقراطية المتعايشة في كنفها، وأعلن قادة الحزب و”قسد” ألا نوايا انفصالية لديهم، بل ووافقوا على الانسحاب من المنطقة الحدودية، والسماح لدوريات تركية وأميركية بمراقبة خط الحدود.

أبعد من ذلك، أرسل قائد “قسد” مظلوم عبدي، عبر الأميركيين وبتوجيه منهم، رسالة سرية إلى الائتلاف السوري المعارض الذي يتخذ من اسطنبول مقراً له، يعرض عليهم التحالف معهم، وإتاحة المنطقة التي تسيطر عليها قواته كمرتكز ومقر للمعارضة السورية، وكان الرد على تلك الرسالة ببساطة شديدة: إعلان الرئيس التركي رجب طيب اردغان، بدء معركة “نبع السلام”، ساحباً خلفه المعارضة المتحالفة معه، لقطع الطريق على أي طرح من هذا النوع، الآن، وفي المستقبل.

التدخل التركي، معطوفاً على الانسحاب الأميركي من المنطقة الحدودية حيث الكثافة السكانية الكردية، سمح لنظام الأسد بالبدء بالمرحلة التالية من مخططه طويل الأمد.

بعدما تمكن الأكراد من تجريد الثورة السورية من سلاح “الوطنية”، بالتعاون مع فئات أخرى، على رأسها المعارضة السياسية والعسكرية السورية، حان دورهم ليتهموا باللاوطنية، ويتم تمييزهم كانفصاليين، وعزلهم كمكون مضاد لبقية المكونات السورية الأخرى، وصولاً إلى اخضاعهم مجدداً، وإعادة الامور إلى ما قبل 2011، على النحو الذي يتخوف منه قادتهم.

ويخدع قادة حزب “الاتحاد الديموقراطي” أنفسهم، قبل أن يخدعوا جمهورهم، بالقول إنهم يستندون في المرحلة الحالية على “الضامن” الروسي، وإنهم يضعون أيديهم بيد قوة عظمى “أخرى”، لكنهم يتناسون أن هذه القوة هي اليوم أقرب حلفاء خصمهم التركي، ألد أعدائهم، وأن موسكو حضرت من مكانها القصي لتنقذ نظام الأسد، لا لتحقيق حلم الأكراد القومي. وفوق ذلك يخفون عن جمهورهم ما طرحه الروس على عبدي ورفاقه، وهو “نسخة” من الدستور الروسي المقترح، الذي سبق وأن تسلمته المعارضة السورية في أستانة، والذي لا يقدم للأكراد، شيئاً أبعد من بعض الحقوق الثقافية، وإدارة محلية لمناطقهم، تحت سلطة وهيمنة المركز سيادياً، أي تقديم شيء للأكراد بما هم أكراد، كأقلية بين الأقليات الأخرى المنضوية تحت حماية النظام لا أكثر ولا أقل. وما رفضوه مبدئياً، أي الدستور الروسي، سيوافقون عليه في نهاية المطاف، كخيار وحيد متاح.

في هذا السياق، جاءت زيارة ما يوصف بالرجل الأول في جهاز بشار الأسد الأمني، اللواء علي مملوك، الذي اجتمع بعدد كبير من شيوخ القبائل الكبيرة والصغيرة، التي تحاصر التجمعات الكردية في الشمال وتتغلغل بينها. وطلب مملوك إليهم، لا سحب أبنائهم فقط من “قسد”، لاظهار تلك القوات  بمظهر “كردي” قح وتمييزها وعزلها، بل وايضاً دعاهم لممارسة سلطتهم في المنطقة، والتمتع بكونها “منطقتهم” وأنهم كـ”عرب” أسيادها، كما كانوا قبل العام 2011. وهو طرح لا يتضمن على الإطلاق محو الهوية الكردية أو إلغاء الوجود الكردي، فهو حاجة مُلحّة للنظام، ما دام الخلاف مع تركيا قائماً، بل ومطلوب أكثر لجعل العرب أكثر التصاقاً بالنظام، بعدما تبين لأبناء العشائر العربية، إن لا كيان سوى “البعث” يستطيع حمايتهم من أطماع “الكردستاني” ومخططاته الانفصالية.

المدهش، إن القيادات والنخب الكردية الفاعلة، لم تخالف توقعات النظام أيضاً، وهي بدأت تعلي رويداً رويداً من نغمة كفاح “الكرد” و”كردستان الغربية”، وبدأ صعود القادة الأكثر التصاقاً بايديولوجيا قنديل، مثل ألدار خليل وعصبته من كوادر قنديل المتشددين، فيما يخبو نجم كل من مظلوم عبدي والهام أحمد، اللذين يقودان تياراً “أقرب” إلى الوطنية السورية من التيار الأول.

خسرت المعارضة السورية بسبب ضيق افق القائمين عليها، الأرض والجمهور، وتتعلق اليوم بأنقرة وعدائها للأكراد كخشبة نجاة وحيدة. فيما خسرت الحركة الكردية مناطق مهمة، وتسير على طريق خسارة الجمهور الذي بدأت نخبه ونشطاؤه بالقفز من السفينة الآيلة إلى الغرق. ويتخذ “الاتحاد الديموقراطي” بدوره من العداء للمعارضة السورية الرسمية، خشبة نجاة وحيدة له. وكلاهما سيخسر في النهاية، فيما سيكسب نظام الأسد، وقد يستمر انتصاره إلى حين ظهور طبقة سياسية سورية جديدة، بريئة من الأوهام، ومتمسكة بكل قواها، بخشبة الخلاص الوحيدة؛ الوطنية الديموقراطية السورية.

المصدر: موقع المدن

قد يعجبك ايضا