نعرف الألاعيب ما أن نراها..

عبد الناصر العايد

يسود الصمت بيننا كسوريين، إزاء ما يحدث في غزة. ليس بيننا من لا ينتمي لقضية فلسطين، وكان أسلافنا أول من أطلق طلقة ضد الصهاينة المحتلين، وكنا ثاني وثالث ورابع من ضحى، وسنقف حتى النهاية مع حق الفلسطينيين في أرضهم والعدل المتمثل بعودتهم إلى ديارهم.. فلماذا الصمت الآن؟ لأننا، ولكثرة ما تاجر الطغاة بهذه القضية “البياعة” واستغلوا إيماننا بها، صرنا متشككين، وما عادت تنطلي علينا الأكاذيب، وسرعان ما نكتشف المصيدة خلف الطُّعم مهما كانت براعة وخبرة من نصبها.

تخبرنا تجاربنا، بأن في “طوفان الأقصى” قشة واحدة يُراد لنا أن نتعلق بها، هي مشاعرنا الصادقة نحو “القضية”، وأن الانتشاء العاطفي المؤقت هو كل ما سنجنيه. أما الثمار الجوهرية، سياسياً واستراتيجياً، فنعلم جيداً أنها ستسقط في سلة عدونا، وندري أيضاً كيف تستدير فوهة بندقية “المقاومة” نحو هدفها الحقيقي، لتطلب منا الركوع لها ما أن تعلن انتصارها الوهمي على إسرائيل.

الأمر لا يتعلق بإيران التي لا مراء لدى كاتب هذه الكلمات بأنها تتحكم في معركة غزة، فالقصة تعود سورياً إلى ما قبل الانقلاب الأول سنة 1949، الذي سبقه استخدم شكري القوتلي للجيش الذي حُشد لمنع قيام إسرائيل في قمع انتفاضة قامت ضده على خلفية إعادته رئيساً، خلافاً لما ينص عليه الدستور. ثم توالت الانقلابات، وكانت كلها تتلو بيانها الأول باسم فلسطين وتحرير الأرض والإنسان، لكننا خسرنا مزيداً من الأرض، وسقط الإنسان لدينا في العبودية لعصابة عائلية طائفية انتقلت من القتل الممنهج لنا في اقبية فرع “فلسطين” وأضرابه، إلى القتل العلني بالأسلحة المحرمة دولياً، وبمساندة محمومة من فيلق “القدس” الإيراني بذريعة كوننا عملاء في مؤامرة صهيونية.

عرف السوريون أيضاً الخديعة وكيف تحاك، من تجربتهم مع “حزب الله” اللبناني، الذي قدموا له ولشعب “المقاومة” الغالي والثمين في حرب تموز 2006، ولم تمض سوى سنوات خمس، حتى عاد والسكين في يده، قاتلاً مُهجّراً ومحتلاً للبيوت التي فتحت له بملء النفس والخاطر.

إنه زمن ليس بالقصير، دروسنا تمتد إلى أزيد من نصف قرن، وآن لنا أن نتعلم كيف نكبح مشاعرنا ونشحذ عقولنا من دون أن نفقد إرادتنا. وببصيرتهم التي جعلتها التجارب أكثر حدّة، يرى معظم السوريين ما يجري في غزة اليوم عرضَ عضلات للحرس الثوري، هدفه فرض إيران كقوة إقليمية طاغية، وسنداناً لمطرقة إسرائيل، يسحقان معاً ما يقع بينهما من العراق إلى سوريا ولبنان، لتصير شعوبها غباراً لا يُرى.

يقول الإسرائيليون إنهم اعتقدوا أن سكان غزة ما عاد يهمهم سوى تصريحات العمل لديها، وما عادوا يفكرون بمهاجمتها. هذه الجزئية تختزل استراتيجيتها منذ نشوئها، وهي جعل العرب متسولين على بوابات أورشليم، وهي الاستراتيجية الإيرانية ذاتها التي تسعى من خلال التخريب الممنهج لعمران المنطقة إلى جرنا شعوباً وجماعات إلى أبواب قم، متسولين نستجدي دعمها ورضاها.

لم يدعم السوريون، باستثناء المرتبطين بحبل السرة الايديولوجي مع حماس والإخوان المسلمين، ما يجري في غزة، فهم يعلمون بغريزتهم أي منقلب أسود سينقلب إليه الحال، وهو تمكين إيران، وترسيخ عبادة الولي الفقيه في تلك الأرض، التي أصبحت منذ سنوات كثيرة غريبة عنا، وأصبح قاتلنا قاسم سليماني بطلها، وصار بشار الأسد الذي دمّر مثل أبيه، سوريا، السند الأقرب للحق الفلسطيني، حامي وراعي “القضية”!

لقد حمت إسرائيل نظام الأسد ابان الثورة عليه، لأنه أفضل ما يمكن أن يحلّ على حدودها الشمالية، وأسندته إيران لأنه يحقق كل أحلامها في المشرق العربي، ودعمته روسيا التي لم تكن تحلم بموقعها الجيوستراتيجي على المتوسط من دون وجوده. وبالطبع، ألقى حزب الله وحماس وغيرهما كامل ثقلهم وراءه لاشتراكهم في الغايات النهائية ذاتها، وهذا ما جعل السوريين يعيدون تقسيم العالم من حولهم بنسخة مختلفة عن المدونة المعتمدة. فالآخرون من حولهم ليسوا محوراً إسرائيلياً، ومحوراً مقاوماً له، وثالثاً معتدلاً. القسمة وجهة نظر معظمنا، وستغدو مع مرور الوقت وجهة نظر مزيد من الجماعات في المنطقة، هي أننا شعوب بلا حرية، وبلا كرامة، وبلا قيمة، أمام أنظمة مستبدة وقوى شر تابعة لها، تجتمع مصلحتها على بقائنا مسلوبي الإرادة، يختلفون فقط عند اقتسام الغنائم، أي أعمارنا الضائعة ودمائنا المهدورة وبلداننا المنهوبة.

ليس الحل لقضية فلسطين وسوريا ولبنان والعراق، بحلول إيران مكان إسرائيل. الحلّ الحقيقي والدائم والوحيد، هو قيام أنظمة ديموقراطية في منطقتنا واستعادة الإنسان لقيمته، أي تحقيق ما بشّرت به موجة الربيع العربي الأولى، وما سيتحقق بلا شك في موجة ثانية أو ثالثة، أي امتلاك شعوب المنطقة حق قيادة نفسها، وهو ما يجري وأده ومحاولة إلغاء أي احتمال أو إمكانية له، عبر زج شعوب المنطقة في حروب تشنّ باسم أنبل القضايا لكنها تنطوي على أسوأ النوايا والغايات، وهو ما لن يستمر طويلاً، فالشعوب لم تعد بتلك البراءة والطيبة، وصارت تعرف الألاعيب.. ما أن تراها.

قد يعجبك ايضا