هل ستغير كورونا النظام العالمي؟

عمار جلو

جسر:

تتساقط الدول، قوّيها وضعّيفها تحت وطأة “الكوفيد ١٩”، وإذا كان الركود الاقتصادي والانكماش التجاري هو الأشد بروزاً نتيجة الهجوم الشرس لكورونا، فإن الجمود السياسي لا يقل وضوحاً ، فنتيجة الخلاف على بعض التعابير بين الولايات المتحدة والصين وروسيا ،عجز مجلس الأمن عن الأنعقاد لإصدار بيان “حول الكوفيد ١٩ “، وهذا مؤشر سلبي من ذراع المنظمة الأممية التي تعتبر بمثابة حكومة عالمية، غير أن هذه الخلافات ليست وليدة اللحظة فإرهاصاتها موجودة على الساحة الدولية قبل انتشار الوباء، وقد دلت عليها الكثير من أزمات العلاقات الدولية أو التجارية والاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، المعروفة بالحرب التجارية بهدف السيطرة الاقتصادية على العالم ، إضافة إلى مشاريع التسليح التي تصّدرت المشهد الدولي وإعلان بعض الدول التنصل من اتفاقيات التسليح، والدخول العسكري الروسي.

عودة إلى شبه جزيرة القرم، وحرب النفط الحالية بين السعودية وروسيا، هذه مؤشرات توحي بأن التغييرات السياسية التي سيشهدها العالم بعد تعافيه من الوباء تتجاوز التغييرات الاقتصادية التي يتوقعها الكثيرون ، فالسياسة والاقتصاد صنوان لا يمكن فصل أحدهما عن الأخر ، وإذا اخترنا من تعاريف السياسة أنها إدارة المصالح، فإن الاقتصاد عمود هذه المصالح وعصبها الرئيسي ، وأي تغيير في النظام الاقتصادي سيسبقه أو يتبعه تغيير في النظام السياسي على الصعيدين الوطني أو الدولي، ونظراً لتخطي النظام الاقتصادي الحدود الوطنية، فأن التغيير على المستوى الدولي هو الأكثر إلحاحاً،  وبالنتيجة صياغة نظام دولي جديد يطوي النظام المولود من رحم حرب كونية لم تستطع عصبة الأمم المشكلة بعد الحرب العالمية الأولى تجنب انفجارها، بل إنها كانت أحد أسبابها .

مشهد يعيد للأذهان ما حدث خلال الحرب العالمية الأولى، حيث ساهم انتشار وباء “الأنفلونزا الأسبانية ” عام ١٩١٨ إلى تغيير مسار الحرب وإعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية، و لعّل من المشاهد الآنية لهذه التغيرات الساحة الأوربية وما تشهده من انكفاء كل دولة ضمن حدودها الجغرافية مغلقةً حدودها في وجه شركائها الأوربيين، وقد عبّر الكاتب الإيطالي “بادلو ديسوغوس” عن ذلك بقوله (إنّٓ من يظن أنّٓ العلاقات الأوربية ستعود لما كانت عليه قبل الأزمة فهو واهم)، خصوصاً بعد الإجراءات الألمانية والفرنسية الانفرادية خارج إطار سياسة مشتركة ضمن أروقة الاتحاد، وهنا لابد من وضع النقاط على الحروف، فقد دعت ألمانيا إلى نظام كونفدرالي كأساس للأتحاد، بينما اقترحت فرنسا اتحاد اندماجي ، سياسي اقتصادي عسكري ، وانتصرت النظرة البريطانية القائمة على فضاء اقتصادي كأساس للاتحاد، وبذلك أضاعت فرنسا وألمانيا فرصة خلق اتحاد سياسي واقتصادي تكاملي بين دول الاتحاد بعد خروج بريطانيا منه.
سيتعافى العالم من هذا الوباء لكن النظام الدولي سيصيبه التغيير، هذا ما تشارك به عدد من الدبلوماسيين والمفكرين من خلال مجموعة من النقاط التي أوردتها صحيفة ” فورين بوليسي ” الأمريكية، ومن هذه النقاط :
– فشل الولايات المتحدة والغرب في قيادة العالم وتحويلها إلى الصين ودول جنوب شرق أسيا .
– تغير النظام العالمي وموازين القوى بشكل كبير.
– فشل المؤسسات الدولية في القيام بدورها في التحذير والتنسيق للحد من الأزمة.
– الدول المنتصرة في أزمة كورونا هي التي ستكتب التاريخ.
ستتغلب دول العالم على هذا الوباء وتتعافى من أثاره، لكن المدة قد تطول وقد تقصر، وهذا يتوقف على التكاتف الدولي في مواجهته، وهو مالا نشاهده حتى الآن، فبالرغم من المساعدات التي تقدمها الصين وروسيا لبعض الدول التي أصبحت بؤر للوباء، فإن هذه الجهود تحمل في إنسانيتها بذور سياسية يمكن استثمارها لاحقاً لفرط تكتلات أو بناء تحالفات على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ويساعدهما في ذلك الارتباك الأمريكي حتى الآن وتقوقعه ضمن حدود الجغرافية، دون المشاركة بعمل جدّي حتى تجاه حلفائه الأهم، إلا أن سرعة انتشار الفيروس والتهديدات التي يطرحها، إضافة لعدم التوصل لاكتشاف عُقار مضاد ستفرض على الدول تأجيل الخلاف وتفعيل التكاتف في مواجهة العدو المجهول، سواء على صعيد الأبحاث وتبادل المعلومات أو على صعيد الجهود والمساعدات الهادفة لمحاصرته، (وقد أبرزالتاريخ الحديث صورة لتحالف الأضداد في مواجهة الزعيم النازي وحلفائه خلال الحرب العالمية الثانية)، و بدا هذا الأمر بالمحادثة التي أجراها الرئيسان الأمريكي والصيني طوت بعدها الاتهامات المتبادلة والتصريحات المستفزة بين الجانبين.

قد تتفجر الخلافات المؤجلة لما بعد كورونا أو تسلك طريق الرشاد ، لكن النظام الدولي بعدها سيرتدي رداء جديد ، وبخلاف التكهنات التي تُشير إلى تراجع محتمل لحقوق الإنسان وعودة الدولة القومية وإعادة حرث بذور الاستبداد في الأنظمة وذلك تماشياً مع النجاح الصيني (المزعوم ) في إطار جهودها لمواجهة الوباء، إلا أن هذا النجاح تعُوذه الدقة والمصداقية، في ظل أنظمة شمولية التي تتطاير فيها الرؤوس نتيجة تصريح عن عمر الرئيس من أحد مواطنيها، فكيف الحال بالنظام الصيني الذي ستبقى لعنة كورونا ولعنة الدكتور “لي رين ليانج ” تطاردانه، وقد يكون من المقبول إعطاء دور أكثر مركزية للدولة في الإشراف والتوجيه والدعم لبعض القطاعات، لا سيما قطاع الرعاية والضمان الصحي وقطاعي التعليم والبحث العلمي ومواضيع البيئة والمناخ، كما يمكن أن تتأثر القشرة الكمالية لمنظومة حقوق الإنسان أو ما يمكن تسميته ب “البطر الحقوقي”، في قضايا منافية للقيم الأخلاقية للإنسان، تم إقرارها كحقوق ضمن صفقات انتخابية خارج المسيرة الطويلة للأفراد والهيئات في نضالها للوصول إلى شرعة حقوق الإنسان الخاصة كالإجهاض أوالمثلية الجنسية التي يُشار إليها حين الحديث عن فيروس الأيدز، أما القضايا الجوهرية فليس من السهولة بمكان التراجع عنها وخاصة أن أعداد الضحايا الذين سقطوا في مسيرة الوصول إليها تفوق أي عدد يُتحتج به في معرض الحديث عن تقييدها، وقد يكون أغرب التحولات بعد كورونا يتمثل في إعادة النظر إلى المؤسسة العسكرية والجيوش وتحالفاتها على أساس مواجهة أخطارغير عسكرية تعجز المؤسسات المدنية عن مواجهتها، وقد بدت بوادر هذا الأمر خلال المؤتمر الصحفي الافتراضي الذي عقده “ستاتنبرغ ” الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث قال: “إن حلف الأطلسي يدرس كيفية تنسيق دعمه ومساعدته لدول الحلف بشكل أفضل في مواجهة الوباء، وإن القدرات العسكرية تدعم الجهود المدنية، فهي تُساعد في مراقبة الحدود ونقل الإمدادات الطبية وعمليات التعقيم”.
وما يصح على المستوى الوطني يرقى للتصدير إلى المستوى الدولي، فقد ساهمت العولمة التي صدّرتها دول مابعد الحرب العالمية الثانية في تكريس دعائم النظام الدولي كما أرست ركائز النظام الليبرالي الغربي الذي ساهم في تحرير اقتصاديات العالم وربطها بالمجتمع الدولي، هذه العولمة التي ساهمت مع تحرير الاقتصاد بالقضاء على الدولة القومية التي أصبحت من الماضي مع تقسيم العالم إلى دول الشمال ودول الجنوب وغرب وشرق، فالفيروس أظهر عجز الدول المتقدمة عن مواجهته كما أن المخاطر التي تهدد الدول لن يبقى في حوزة الدول القوية فقد تكون من دول ضعيفة ومتخلفة تُشكل فضاء لإنتشار الأوبئة مما يدعو لزيادة أنسنة النظام العالمي.

قد يعجبك ايضا