إدلب ضحية “الدستورية” السادسة

سميرة المسالمة

ينقسم السوريون بين معارض ومؤيد لوضع التغيير الدستوري أو تعديله على سلّم الأولويات للمعارضة، بالرغم من أن الدستور في أي بلدٍ يحدد طبيعة العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وهو يعاير بدقة وظائف السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية والحدود الفاصلة بينها، وبطبيعة الحال هو صورة هوية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لكنه في سورية -منذ الاستقلال حتى اليوم- لم يأخذ مكانته الراسخة فوق السلطات، وكان معظم الوقت في خدمة السلطة التنفيذية، على حساب استقلالية “التشريعية والقضائية”، وغالبًا ما عطّلته الانقلابات العسكرية أو المراسيم الرئاسية التي كانت انعكاسًا لإرادة السلطة العسكرية والأمنية في فترات كثيرة من حكم سورية، وتعاظمت سلطتها مع عهد الأسدين الأب والابن.

ومع افتراض حسن النية بأن النظام ذاهب إلى الجولة الجديدة للعمل على الدستور، فإن طبيعة واقع عمل اللجنة تدفع نسبة كبيرة من السوريين إلى اليأس مما يمكن أن تحدثه اجتماعات اللجنة الدستورية، بشكلها ونظامها التصويتي الحالي، سواء لجهة إقرار تغييرات دستورية (حسب مقترح النظام السوري)، أو صياغة دستور جديد لسورية (حسب مطالب المعارضة)، بالتوافق بين أعضاء اللجنة الدستورية، بسبب انقسامها بين ثلاث وجهات نظر، شكليًا وليس فعليًا، لأن طريقة اختيار الوفد الثالث تسببت في ضياع ملامح استقلالية وفد المجتمع المدني، وذلك لانقسام مرجعيته وتعييناته بين النظام والمعارضة، وبالتالي عدم قدرته على تشكيل كتلة وازنة متساوية مع كتلتي المعارضة والنظام في الرأي والفعل، ما يعني غياب الرؤية الجامعة، وحضور وفد المجتمع المدني كأفراد، تحضر خلافاتهم أكثر من توافقاتهم، ويتحوّل دورهم من شركاء فاعلين إلى أصوات ترجيحية يراهن عليها بين الفاعلين الأساسيين.

لم تأت الجولة المنتهية بجديد على واقع فشل الجولات السابقة، وتبادل الاتهامات بين النظام والمعارضة عن أدوارهم في تعطيل أعمال الاجتماعات، وإنما أكدت ارتباطها بالملفّ العسكري، كما غيرها من الجولات، وتزامنت مع تصعيد عسكري يلوح في الأفق، وتستعد له الأطراف المتواجهة (المعارضة والنظام)، كما تحشد الأطراف المتحالفة في آستانا (روسيا وإيران وتركيا) قواتها له، ولكن في مواجهة بعضهما، ما يعني أن تفشيل الجولة لم يكن بسبب نقاشات حول الدستور والمبادئ فقط، بقدر ما هو بسبب خلافات مرجعيات الوفدين الدولية، فحيث تأمل روسيا استعادة إدلب وطرقها كافة، قبل الشروع في أي حل جدي، ترى تركيا أن استرجاع النظام لإدلب، قبل البت في خارطة حدودية جديدة لتموضع الكرد والنظام وحصتها في الملف السوري عمومًا، هو نقض لاتفاقات سابقة جرت مع روسيا في سوتشي، وبدأت من تنازل تركيا عن حلب لروسيا عام 2016، مقابل توغلها في الأراضي التي تطالب بها اليوم روسيا.

في كل مرة، تتزامن الجولات مع عمليات عسكرية يشنها النظام على مناطق خارجة عن سيطرته، وقد حقق انتصارات عدّة، برعاية روسية-إيرانية، كان آخرها استعادة بسط سيطرته على حوران مهد الثورة السورية، عقب عملية عسكرية استهدفت البشر والحجر، وسعت إلى أكبر عملية تهجير كان يمكن أن تشهدها سورية، عقد بعدها تسوية أعادت أجهزته الأمنية إلى ممارسة أدوارها داخل درعا وأحيائها، في آذار/ مارس 2021، وكانت بمنزلة إعلان انتهاء تسوية سابقة تمت في 2018، عقدها أهالي درعا مع روسيا برعاية أميركية وإقليمية (الأردن وإسرائيل)، أبعدت من خلال بنودها تدخل النظام المباشر في حكم المنطقة.

وهذا يماثل ما حدث في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2019، حيث استعاد النظام عشرات القرى والبلدات في إدلب، بعد التوصل إلى اتفاق تشكيل اللجنة الدستورية في 23 أيلول/ سبتمبر 2019، قبل الذهاب إلى الجولة الثانية، بعد فشل جولتها الأولى في تحقيق أي تفاهم حول آلية العمل داخل الاجتماعات المشتركة بين الوفود الثلاثة المشكلة للجنة الدستورية. ما يعني أننا أمام سيناريو يتكرر، حيث يستعد النظام لعملية عسكرية في إدلب، واتفاق تسوية على الجزيرة العربية، أو ما يسمى مناطق الحكم الذاتي التي تسيطر عليها قوات (قسد)، يستعيد بموجبها مساحات جديدة قبل الموافقة على عقد جلسة جديدة تحت الرقم “سبعة”.

وعلى ذلك، فإن ما يجب أن يشغلنا ليس فشل جولة اللجنة الدستورية، وإنما ما يعقب هذا من أعمال عسكرية، ستكون هدفها إدلب، وبتيسير من روسيا وإيران، في مواجهة تركيا التي تدافع عن مصالحها الحيوية في ملف الصراع السوري، وحماية حدودها في وجه التمدد الكردي الذي تدعي أنه يهدد أمنها، وليس دفاعًا عن حلفائها من المعارضة، ولهذا تحاول تركيا أن تبقي على فاعليتها من خلال إحكام سيطرتها على قرار وفد المعارضة السياسي، وتحكمها في القرار الفصائلي المسلح، والإبقاء على قواتها التركية في أهبة الاستعداد لأي خيارات عسكرية محتملة.

ما يعني أن تفشيل الجولات هو مصلحة لداعمي طرفي اللجنة الدستورية (روسيا وإيران من جانب، وتركيا من جانب آخر)، في وقتٍ لم تُحسم فيه بعد الصراعات العسكرية، ولم توزع الغنائم المرجوة بما يرضي كل الأطراف، وعلى رأسهم صاحبة اليد الطولى في تقرير مصير كل الأحداث: الولايات المتحدة الأميركية التي تمتلك المفتاح السري لإنهاء مخاوف تركيا من الكرد، كما يعتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتراهن عليها أنقرة في الوقوف معها مرة جديدة لمنع اجتياح روسيا لإدلب، بينما تبقى إيران تناور على توسيع دورها في سورية، من خلال طاولة مفاوضات فيينا مع الجانب الأميركي حول السلاح النووي.

إننا أمام واقع يجعل الوصول إلى أي تعديل حقيقي في بنية الدستور مستحيلًا إلا مع فرصة أن يتراجع أحد الطرفين عن مطالبه، وحيث لا يجد النظام “المنتصر” عسكريًا أي دوافع لتخليه عن موقفه المساند لدستور 2012 في نحو 99 بالمئة من بنوده، فيما تكمن مصلحته في تغييرات بسيطة يريدها لاستمراره، يجد وفد المعارضة نفسه مرغمًا على التعاطي مع طروحات النظام، التي تأتي في وقتٍ تخلى فيه المجتمع الدولي عن دوره في بناء السلام وتحقيق الديمقراطية، وفق القرارات الأممية الخاصة بسورية، ومنها 2254، ما يوجب علينا أن نُشفق على وفد المعارضة لا أن نرجمه.

المصدر: حرمون

قد يعجبك ايضا